أنا ابنة جيل الانصاف والمصالحة، جيل مرحلة تكريس المؤسسات الدستورية، جيل قرأ قصص مرحلة سابقة، وعايشها في محيطه العائلي، وسمعها في جلسات الإنصاف والمصالحة. ما قرأناه من أدبيات المرحلة، يجعلنا كجيل شاب نعي ما عاشته البلاد في مرحلة مرت بما لها وما عليها، ولذلك نفهم اليوم أنه وإن كانت طريق الإصلاح طويلة وتحتاج المزيد من العمل، فإن البلاد لم تعد هي نفسها بعيد الاستقلال، وعقلية التسيير تغيرت، نظام اليوم تكييفي ولديه القدرة على الاستجابة لمطالب بيئته مهما كانت مخرجاته قد نختلف بخصوصها، ولكننا نتفق أنه يشكل قفزة نوعية إن قارناه بالأمس القريب. لكن يبدو أن التطور والتكيف مع المنظومة الكونية لا يروق للجميع، هذه الفكرة البسيطة الواضحة لا توافق هوى مجموعة بقيت حبيسة الصور النمطية التي رسمت في أدهانهم وفقط، كما أنهم مازالوا يعيشون ذهنيا في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وأنهم يتجاوبون مع واقع اليوم بناء على معطيات لم تعد حاضرة على أرض الواقع لا شكلا ولا مضمونا. جئت اليوم لأحدثكم عن هذه المجموعة وعن مشروعها التخريبي، الذي أراه مجرد امتداد لفكر مرحلة بائدة ما زال هؤلاء يعتمدون أدبياتها اليوم، وليس المشكل ها هنا، فليس عيبا أن يتبنى الناس إيديولوجيات مختلفة ومخالفة، ولكن العيب هو أن تتحول هذه الإيديولوجيات إلى جزر سياسية تعيش عليها عشائر منفصلة عن الواقع، ولا تساهم فيه، وتحن إلى عصر صراع القطبين، وتحلل الواقع بناء عليه. لقد اتخذت هذه العشيرة العدمية من الدولة خصما تستخدمه كفزاعة، عوض التعبير عن عدم ثقتها في مبادراتها ورفضها لمنهجها، بتقديم مطالب أو التعبير عن المصالح أو تجميعها وطرحها. اختارت ان تتكئ على إرادات خارجية لا مصلحة فيها للشعب الذي تدعي أنها تدافع عنه، وفي اصطفافها هذا تتماهى أحيانا مع مصالح معادية للوطن، والواقع أن هذه العشيرة العدمية، آثرت أن تكون مؤسسة حزبية، دون أن تطرح نفسها ضمن أي نسق تشريعي لتمثيل الشعب أو لتحقيق التغيير من خلال قنوات شرعية وليس العكس، الذي لا شك يؤثر على استقلال النظام. هؤلاء يعيشون على منطق المقاطعة منذ البداية، هؤلاء اختاروا أن يتبنوا فكرة المشاركة المشروطة بالتغيير أولا، بمعنى أننا لن نشارك في الحياة السياسية، حتى تتوفر شروط معينة، من المفروض أنها مجال للتدافع السياسي وبناء القواعد الحزبية، والتأطير للدفع في اتجاه التغيير حسب أي تصور سياسي يتبناه أي حزب، لأن السياسة في الأخير، هي فن الممكن، لكن هؤلاء آثروا ألا يكون لديهم مشروع سياسي جدي، فما لديهم هو شعارات انتهازية فارغة، لا ترقى ان تكون افكارا سياسية وتنموية. فماذا تخططون؟ على من تتآمرون؟ تحت امرة من؟ وما البديل؟ ومن يحدده؟ هذا النهج التخريبي والنسق الفوضوي، تبرز له عند الحاجة أذرع جمعوية وحقوقية وإعلامية تروج لمخططاته الظلامية، وما جعلني أكتب عنه، هو احتكاكي مع أذرعه الحقوقية التي تكيل بمكيالين حين يتعلق الأمر بأفراد عشيرتها، فلا الحقوق تبقى حقوقا، والمبادئ عندها تجزئ، وتنفك المفاهيم الحقوقية من شموليتها.. هي نفسها بصمة الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، ومن وراءها حزب النهج الديمقراطي، هذا الحزب الذي يشكل امتدادا لحركة إلى الأمام، والذي يعيش على تراثها القديم، هو الذي يوزع اليوم صكوك الغفران على الآخرين، ويصنفهم حسب رغباته، لا بل ويتبنى طرحا معاديا للوحدة الترابية للمملكة، عبر دعمه لما يسميه بتقرير المصير، وفي هذا الباب يرتكب هذا الحزب أكبر مغالطاته، التي قد يتسع المجال لاحقا للنقاش فيها. هذا هو النهج الذي لا يؤمن بتطور التاريخ، ولا بتغير الأزمنة، ويفضل أن يعيش خارج السياق الزمني، في نسق يتناسب مع فكره المتجمد، وهذه بالفعل هي العدمية التي نعاني منها، والتي تمتد أذرعها اليوم من الممارسة السياسية، إلى العمل الجمعوي والحقوقي. لا يمكن في الختام أن نبخس النهج الديمقراطي حقه، ويجب أن نعترف له بتاريخه النضالي منذ سبعينيات القرن الماضي حين كان "حركة إلى الأمام" لكن ما يمكن أن نعيبه على مجتمع هذا الحزب وامتداداته الجمعوية والحقوقية، هو ميله سنة بعد سنة للعدمية، والانفصال عن الواقع، ومقارباته الجامدة التي تتكلم بصيغة أن كل شيء فاسد، وأنه لا إصلاح إلا بعد الهدم. إذا كانت بعض الجماعات الإسلامية المتشددة قد قامت بنقد ذاتي ومراجعات عضوية، وتغيرت حسب متطلبات المرحلة، وقامت بنقد ذاتي، فإن الوقت قد حان بالنسبة لليسار المتطرف أن يقوم بذات الشيء، وإلا فإنه سيجر جيلا آخر من الشباب إلى العيش في واقع مواز لا تربطه بالواقع إلا أرقام التقويم. ولكم في الصراعات السياسية والحقوقية الأخيرة التي يخوضها المغرب على أكثر من جبهة خير مثال، هؤلاء لا يبدون منها موقفا إلا إن كان سلبا، فحتى عندما تدخل الناطق باسم الخارجية الأمريكية في محاكمة "سليمان الريسوني" و"عمر الراضي" كانوا يهللون بأن أمريكا تضغط على المغرب ويستشهدون بهذا الموقف، لكن حين علقت نفس الخارجية الأمريكية على الأحداث في كوبا، قام هؤلاء بالنداء برفع ما يسمونه ب "الأيادي القذرة عن كوبا الأبية وعن شعبها المكافح" يطبقون الصمت حينما يتعلق بأزمة حقيقية للمغرب مع إسبانيا أو الجزائر، وهم مستعدون لمساندة حق تقرير المصير بالصحراء المغربية، ولكنهم يغلقون أفواههم عن شعب القبايل بالجزائر وقد يتعللون بأنهم معنيون فقط بقضايا المغرب، لا أملك غير القول: آسبحان الله، كوبا وشعب كوبا نحسبوهم على طرفاية ولا على حد كورت؟ يتبع..