في كل مرة أزور الدكتور محمد شهبي تتوقّد نشوة الكتابة عن طبيب لا يشبه إلا نفسه. انظرْ إلى عينيه.. احزمْ شراعك وأبحرْ في زرقتهما. أنظرُ في عيني محمد شهبي لأشاهد لمعة إصرار، اللّمعة نفسها حين كان طريح الفراش يصارع المرض في غرفة بالطّابق الثاني.. تلك الغرفة التي تحتضن رجلا شبه-ميّت. كأنّه استفاق من كابوس، ويخشى النّوم مرة ثانية مخافة أن يزوره الكابوس من جديد، لذا تراه جاحظ العينين، يرفض حتى أن يرمش كي لا يعود الزمن إلى الوراء، ويبدأ مخاض الألم من نقطة البداية، مع أوّل رشحة برد، واختناق نَفَسٍ. لا يريد أن يتذكّر كيف كان أسيرا في جلد فيروس قاتل رفض أن يغادر جسده قبل أن حوّل رئتيه إلى غابة محروقة. أقسى لحظة عاشها هو أن يظلّ واقفاً على قدميه أكثر من خمس ثوانٍ. كم كان يشعر بجسده ثقيلا كأنّ قدميه المنمّلتين تحملان جبلاً من البارود أو تجرّان أصفادا حديدية. سجينٌ تُسْتَنْزَف منه أنفاسُه.. كلّ يوم يُسْرَقُ منكَ نَفَسٌ، حتى النّفَس الأخير. الغرفة تراها وحدك سجناً، بينما تتراءى للآخرين "مزاراً"، يضعون أكاليل الورود على العتبة، ثمّ ينصرفون. تظلّ وحيدا تبحث عن قدميك، فلا تجدهما. تصرخ بملء حنجرتك: * أين فرّت قدميّ؟ لا يسمع صراخك أحد، يعود إليك رجع صداه. لا تصدقْ بأنْك رجلٌ عاجزٌ لا يستطيع أن يخطو بمفرده خطوة واحدة. * ماذا يحدثُ لي؟! تسألُ نفسَك ولا تجد الجواب تسألُها من جديد: * لماذا أنا؟! دفعتَ الثمن باهظا.. من زمن بعيدا وأنتَ مَنْ يسدّد فواتير الآخرين. كنتَ تمنح دماءَك ليشربَها غيرُك حتى الارتواء. واليوم مَنْ يسدّد ديون مرضك؟ لا أحد، حتى مَن ارتووا من دمائك اختفوا كالسّراب!! الحياة تختبرُك اختباراً قاسياً، واختارت أن يكون سقوطُكَ مريعاً وفادحاً. من أطلق سهمه عليك سدّد بعناية لتكون الضربة مميتة. حتى المرض لم يكن عادلاً ورحيماُ بِكَ. * من أين تأتي كلّ هذه القسوة؟! لا يجيبُك أحدٌ. أنفاسُك متقطّعة. صدرك يغلي كمرجل نار. تستعيدُ إشراقة وجهك وضحكة عينيك. لم تتغيّرْ، مازلت تحمل أحزان الآخرين على منكبيك، وتهوى تسديد فواتير الآخرين. مازلت كما كنتَ طيّباً تقدّم دماءك أنخاباً ليَكْرَعَها الآخرون نبيذاً حتى الثّمالة!!