لا أحد يماري في أهمية دور الجمعيات والمنظمات الحقوقية في النهوض بثقافة حقوق الإنسان في أي بلد، وفي تعزيز المكتسبات الحقوقية وترصيدها وتحصينها ضد انزلاقات الشطط والتجاوز المحتملة، شريطة أن يكون منطلق هذه الائتلافات والمنظمات خالصا لوجه حقوق الإنسان، أي بعيدا عن الخلفيات السياسية ومجردا من الأجندات الخاصة والاملاءات الإيديولوجية. كما أن الدفاع عن حقوق الإنسان، يقتضي فيمن يقدم نفسه مدافعا عنها، أن يكون مُلّماً بالقوانين والتشريعات الوطنية ذات الصلة، ومتمكنا من الشرائع الدولية لحقوق الإنسان، لأن ثقافة حقوق الإنسان هي “تيمة” أساسية ونبيلة تحتاج لمن يدافع عنها أن يكون محاميا بارعا، ومناضلا متمرسا، وأكثر من ذلك أن يكون مجايلا ومعايشا لواقعه القانوني والمادي. ومردّ هذا الحديث، هو مؤدى البلاغ الأخير الصادر عن منتدى الكرامة لحقوق الإنسان حول “متابعة الوضعية الحقوقية خلال فترة الطوارئ الصحية”، والذي تسربت إليه بعض الأخطاء القانونية والمفاهيمية، واختلطت فيه، على معديه وكاتبيه، إجراءات قانونية تسري على الرشداء وليس الأحداث القاصرين، كما غابت عنه معطيات واقعية للرصد والمتابعة الميدانية، فكان أقرب ما يكون إلى “النمطية المعهودة في التقارير البديلة”، وكأنه مجرد وثيقة عادية تذروها الرياح مثلما تتقاذف بنان أطفال الحي الصغار كرة الأسمال البالية. الاعتقال الاحتياطي..مطلب غير واقعي فمن ضمن المطالب الراهنة التي أوردها منتدى الكرامة لحقوق الإنسان في بلاغه الأخير “إطلاق سراح المعتقلين الاحتياطيين والمودعين في السجن، والذين يناهز عددهم ما يقارب أربعين ألفا، وذلك عبر تمتيعهم بالإفراج المؤقت مع وضعهم تحت المراقبة القضائية، وهو تدبير يسهل توفيره في الظروف الحالية”. فهذا الطلب ليس طوباويا فقط، وإنما هو مستحيل التطبيق لعدة اعتبارات قانونية وواقعية ربما غابت وتغيب عن أذهان ذهاقنة منتدى الكرامة وسدنة الحقوق فيه. فالمادة 618 من قانون المسطرة الجنائية تعتبر الشخص معتقلا احتياطيا كل “شخص على ذمة قضية زجرية، لم يصدر في حقه حكم حائز لقوة الشيء المقضي به”. وهو تفسير واسع جدا يجعل كل المعتقلين الذين لم يصدر في حقهم حكم، أو صدر في حقهم حكم ما زال قابلا للتعرض أو الاستئناف أو للطعن بالنقض، يعتبرون معتقلين احتياطيين في منظور القانون المغربي. وهذا التعريف الموسع يختلف عن التعريفات التي أقرتها بعض التشريعات المقارنة التي تكتفي بإسدال وصف المعتقل الاحتياطي على “الأشخاص الذين صدر في حقهم قرار الإيداع في السجن، ولم يتم البت في وضعيتهم بحكم قضائي”، وهو نفسه التوجه الذي اعتمدته لجنة منع الجريمة والعدالة الجنائية التابعة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي بالأممالمتحدة، وكذا أهداف الأممالمتحدة للتنمية المستدامة التي تعتبر المعتقلين الاحتياطيين هم ” نسبة الساكنة السجنية غير المحكوم عليها”. وإذا أخذت الدولة المغربية بعين الاعتبار تعريف التشريع الوطني للمعتقلين الاحتياطيين من جهة، وحاولت الاستجابة لمطلب منتدى الكرامة لحقوق الإنسان من جهة ثانية، فإنها ستجد نفسها مضطرة للإفراج عن أشخاص محكومين بالسجن المؤبد والمحدد من أجل القتل العمد والإرهاب والاغتصاب بالتسلسل والاتجار بالبشر وهتك العرض…لا لشيء سوى لأن أحكامهم لم تصبح نهائية وحائزة لقوة الشيء المقضي به. وهكذا، يمكننا أن نصادف أبو النعيم الذي كفّر المجتمع يتجول مرة أخرى في وسائط الفايسبوك، وسنجد الداعشي الذي قصم رأس شرطي بساطور بابن أحمد في فترة الطوارئ الصحية يتشارك معنا فضاء الحرية في الشارع العام، ويمكننا أن نصادف أيضا قاتل أمه وهاتك عرض ابنته ينعمان بالحرية المقيدة بسبب أن حكمه الابتدائي أو الاستئنافي لم يستنفذ بعد آجال الطعن بالنقض. أكثر من ذلك، فالاستجابة لمطلب منتدى الكرامة الطوباوي معناه الإفراج عن ما يناهز 40 ألف معتقل احتياطي، منهم المشتبه تورطهم في قضايا الإرهاب والتطرف والقتل العمد وغيرها من الجرائم الخطيرة، وهذا يحتاج طبعا إلى آليات للمراقبة القضائية بما فيها المراقبة الشرطية وسحب جوازات السفر والتنقيط اليومي…الخ، وهي تدابير تفرض الاحتكاك اليومي بين موظفي تطبيق القانون وهؤلاء المعتقلين الاحتياطيين، مما يندر بإمكانية تفشي الوباء حتى خارج السجن بفضل هذه “المخالطة القانونية”. والأنكى من ذلك، ففي الوقت الذي تسعى فيه الدولة لفرض وصون مرتكزات النظام العام في زمن الجائحة، فإنها ستكون مجبرة على تجنيد أكثر من 80 ألف موظف عمومي، وهو عدد يفوق عدد موظفي الشرطة بالمغرب، من أجل ضمان التناوب على تطبيق آليات المراقبة على المعتقلين الاحتياطيين المفرج عنهم وفق تصور منتدى الكرامة لحقوق الإنسان! الأحداث.. في نظر القانون المغربي من بين الزلات القانونية التي وقع فيها منتدى الكرامة لحقوق الإنسان، وهي زلة لا يقع فيها حتى المبتدئون في القانون، هي عندما تناول قضية القاصر الذي وافته المنية خلال مدة الاحتفاظ به على ذمة مخالفات خرق حالة الطوارئ الصحية بمدينة الجديدة. فالمنتدى يقول بأن القاصر كان موضوعا تحت الحراسة النظرية، والحال أن المشرع المغربي كان واضحا وصريحا في استثناء الأحداث من إجراءات الحراسة النظرية، إذ أفرد لهم تدابير خاصة بهم لا تسمى نهائيا ” الحراسة النظرية”. فالفقرة الأولى من المادة 460 من قانون المسطرة الجنائية تجيز لضابط الشرطة القضائية “أن يحتفظ بالحدث المنسوب إليه الجرم في مكان مخصص للأحداث لمدة لا يمكن أن تتجاوز المدة المحددة للحراسة النظرية”. كما أتاحت الفقرة الثالثة من نفس المادة “للنيابة العامة، بصفة استثنائية، أن تأمر بإخضاع الحدث خلال فترة البحث التمهيدي لنظام الحراسة المؤقتة…على ألا تتجاوز مدة التدبير المأمور به خمسة عشر يوما”. فالملاحظ هنا أن المشرع المغربي أقر إمكانية الاحتفاظ بالقاصر لضرورات البحث، لكنه لم يستعمل نهائيا عبارات ” الاعتقال ولا الحراسة النظرية” وإنما وحده منتدى الكرامة لحقوق الإنسان من يستعمل هذه المصطلحات غير القانونية أصلا في سياق الحديث عن الأحداث القاصرين. أكثر من ذلك، فجميع مرافق الشرطة المخصصة للإيداع في فترة ما قبل المحاكمة تجدها تميز بين الغرف الأمنية للرشداء، حيث يتم تطبيق تدابير الحراسة النظرية، وأماكن الاحتفاظ الخاصة بالأحداث القاصرين، بحيث لا يتم الجمع بينهم بقوة القانون، ويتم التمييز بينهم تشريعيا في إجراءات البحث والاستماع والإيواء وحتى في السجلات القانونية الخاصة بهم. وتأسيسا على ذلك، فالزعم القائل بأن وفاة القاصر كانت خلال فترة تدبير الحراسة النظرية هو كلام غير سليم من الناحية القانونية، بل إنه يثير السخرية والاستغراب والاستهجان، وأكثر من ذلك يجافي الحقيقة والواقع، لأن وفاة القاصر المذكور كانت خلال عملية خفره للمستشفى بعد إصابته بعارض صحي، وليس خلال مدة الاحتفاظ، كما أن التشريح الطبي هو الكفيل بتحديد الأسباب الحقيقية للوفاة بعيدا عن أية مزايدات أو إطناب كلامي مغلف برداء حقوقي.