يرى العديد من الملاحظين أن سنة 2014 شكلت "محطة عصيبة وحاسمة" في مسار الانتقال في تونس من "الثورة إلى بناء الدولة" بمؤسساتها المستقرة، في سياق وضع أمني واقتصادي صعب، ومناخ إقليمي مشتعل وغير مشجع. سنة ملتهبة شهدت عددا من الأوراش المهيكلة تمثلت، على الخصوص، في المصادقة على دستور جديد وتشكيل حكومة جديدة وإجراء انتخابات تشريعية وكذا الدور الأول للرئاسية، وهو ما اعتبره العديد من هؤلاء الملاحظين، "محطة فارقة" في تاريخ تونس، ودعامة أساسية لاستكمال مسلسل انتقالها الديمقراطي، في الوقت الذي ما يزال فيه خطر الإرهاب والأزمة الاقتصادية وارتفاع الطلب الاجتماعي أمام ندرة الإمكانيات، وعدم تمكن النخبة السياسية من تكريس وترسيخ ثقافة توافقية، يشكل تهديدا لهذا المسار الانتقالي، في رأي ملاحظين آخرين. وقد أفضى الحوار الوطني، الذي انطلق في سنة 2013 بعد الأزمة التي أعقبت اغتيال المعارض اليساري شكري بلعيد والنائب البرلماني محمد البراهمي إلى تخلي الترويكا (أحزاب النهضة والتكتل من أجل العمل والحريات والمؤتمر من أجل الجمهورية) عن الحكم وتشكيل حكومة تكنوقراطية بقيادة مهدي جمعة، يوم 29 يناير 2014 أوكل إليها الإعداد لانتخابات تشريعية ورئاسية خلال العام الجاري. ويجمع الملاحظون على أن هذه السنة كانت "مفصلية" في تحديد معالم المستقبل السياسي لتونس، بعد العديد من المحطات التي كادت تنزلق فيها البلاد إلى وضع كارثي ينذر بالانفجار، في سياق احتدام الصراع وتأججه بين حكومة الترويكا بقيادة "حركة النهضة" والمعارضة التي قادتها "جبهة الإنقاذ الوطنية" التي ضمت أغلب الأحزاب المناهضة تتقدمها حركة "نداء تونس" و"الجبهة الشعبية". وأبرز هؤلاء المتتبعون أن التحولات السياسية والأمنية الإقليمية خصوصا ما جرى ويجري في ليبيا ومصر كانت له تأثيرات على الوضع في تونس، مما أدى إلى "احتقان سياسي وتنام للصراعات السياسية التي تؤججها الشعارات الإيديولوجية واختلاف المرجعيات" بين من يعتبرون أنفسهم "حداثيين" في مواجهة "متطرفين"، وبين "ثوريين" يرون أنهم يواجهون خطر عودة "منظومة الاستبداد ". غير أن محطة التصويت على الدستور يوم 26 يناير 2014 شكلت مرحلة "انعطافية" في التوافق السياسي بين مختلف هذه القوى السياسية بالنظر إلى مضامين الوثيقة الدستورية المصادق عليها، من زاوية تنصيصها على بنية الدولة المدنية والحداثية وحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا، زكتها ردود الفعل الدولية التي رأت أن تونس أرست أسسا ديمقراطية لحياتها السياسية، علاوة على أن المصادقة على الدستور عبد الطريق للإعداد لانتخابات تشريعية ورئاسية من أجل الانتهاء من المرحلة الانتقالية والمرور إلى وضعية الاستقرار السياسي والمؤسسات الديمقراطية الدائمة. وسجل المتتبعون أن تونس بتنظيمها للانتخابات التشريعية يوم 26 أكتوبر 2014 اجتازت "الامتحان الديمقراطي بنجاح"، حيث اختار مواطنوها المشروع الديمقراطي طريقا لبناء المستقبل، في ظل "تنامي ثقافة سياسية تؤمن بالتعددية والاختلاف والتناوب على السلطة والاحتكام إلى صناديق الاقتراع، بدل الاحتراب والعنف والإقصاء والتطرف والإرهاب". وأشار هؤلاء الملاحظون إلى أن الوصول إلى تنظيم هذه الانتخابات والاحتكام إلى صناديق الاقتراع، في حد ذاته، يشكل "فوزا للديمقراطية" في تونس، حيث أنه لم يكن من السهل بلوغ هذه المحطة بعد أزيد من ثلاث سنوات من الصراعات والتجاذبات السياسية والانقسامات والأحداث الخطيرة التي كانت سترهن مستقبل البلاد وترمي بها إلى المجهول في العديد من المحطات السياسية والفترات العصيبة التي مرت بها البلاد علاوة على الوضع الإقليمي والدولي غير المحفز. وقال صلاح الدين الجرشي، المحلل السياسي، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، إن انتخابات 26 أكتوبر شكلت "محطة هامة ومصيرية من أجل استكمال مسار الانتقال الديمقراطي والمرور إلى مؤسسات ديمقراطية مستقرة ودائمة"، مضيفا أن نجاح هذا الاستحقاق "سيعبد الطريق لمواصلة الإصلاحات الاقتصادية، والانكباب على حل معضلات التنمية الاقتصادية والاختلالات الاجتماعية". وساهمت الردود الدولية المشيدة بنزاهة ومصداقية الانتخابات التشريعية والدور الأول من الانتخابات الرئاسية (23 نونبر الماضي) وبالمصادقة على الدستور، في إضفاء مصداقية على التجربة الانتقالية التونسية ودعم مسار التحولات التي شهدتها، والهادفة إلى دمقرطة البلاد وتحقيق التنمية المستدامة، وهو المناخ الذي أشاع نوعا من الطمأنينة لدى الأوساط المالية ورجال الأعمال، وأشر على فرص واعدة لإنعاش اقتصاد منهك والرفع من وتيرة الاستثمار في البلاد. في المقابل أجمع الخبراء والمسؤولون على أن الاقتصاد التونسي مر بفترة "صعبة" بسبب إكراهات وتداعيات الوضع السياسي والظرفية الدولية وغيرها، حيث تسعى الحكومة التونسية جاهدة من خلال عدد من التدابير المختلفة إلى إنعاش الدورة الاقتصادية وتجاوز الوضعية الحالية. وتتمثل بعض جوانب هذه الأزمة الاقتصادية في عجز هيكلي في ميزانية الدولة ناتج عن نمو كبير في المصاريف مقابل نقص في الموارد الذاتية وتراجع وتيرة الاستثمار والنشاط السياحي وركود اقتصادي وتنامي البطالة والاقتصاد غير المهيكل. وعلى المستوى الامني عاشت تونس سنة أليمة على المستوى الأمني من خلال العمليات الإرهابية التي استهدفت أمنها وجيشها وذهب ضحيتها عشرات من الجنود ورجال الأمن في مواجهات عنيفة مع مجموعات إرهابية تنشط في مناطق حدودية مع كل من الجزائر وليبيا تركت أثرها النفسي على مجموع الشعب التونسي، خاصة تلك التي استهدفت 15 جنديا خلال شهر رمضان الماضي، في سياق وضع أمني مشتعل حيث "حالة من الفوضى والضبابية تسود ليبيا وانتشار الإرهاب وتناميه في منطقة الساحل والصحراء". على المستوى المغاربي شكلت الزيارة التاريخية التي قام بها صاحب الجلالة الملك محمد السادس مرفوقا بصاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير مولاي الحسن، وصاحب السمو الملكي الأمير مولاي رشيد، إلى تونس في شهر يونيو الماضي، بالإضافة إلى أهميتها السياسية في دعم مسار التحولات التي يعرفها هذا البلد الشقيق ونتائجها الاقتصادية من خلال الزخم القوي الذي أعطته لتعاون ثنائي وإقليمي متضامن وناجع، حدثا استثنائيا توقفت عنده تحليلا ومتابعة مختلف وسائل الإعلام وتفاعل معه الرأي العام بشكل واسع ومؤثر. وتميزت الزيارة الملكية بحفاوة الاستقبال الذي خصص لجلالته على المستوى الرسمي والشعبي، وبالخطاب التاريخي الذي ألقاه جلالته أمام المجلس الوطني التأسيسي التونسي، حيث جدد فيه جلالته التأكيد على دعم المملكة المغربية للجهود المبذولة من أجل توطيد دعائم الدولة بتونس، مشددا على أن مواصلة الإصلاحات وإجماع كل مكونات المجتمع التونسي، على رفض نزوعات التطرف والعنف والإرهاب، هو السبيل الأمثل لتحقيق آمال وتطلعات جميع التونسيات والتونسيين، وذلك بما يضمن الاستقرار السياسي، والارتقاء بأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، علاوة على دعوته إلى "نظام مغاربي جديد"، يتطلع نحو المستقبل ويقوم على أساس مقاربة بناءة تستجيب للانشغالات الأمنية وللضرورات الاقتصادية و تحقق طموحات الأجيال الحالية والقادمة. وقد وقع البلدان خلال تلك الزيارة 23 اتفاقية للتعاون في مختلف المجالات، تتميز ببعدها الاستراتيجي وتنوع وتعدد مجالاتها، (أمني، اقتصادي، اجتماعي) وعمقها وأفقها الاندماجي المغاربي. كما تنفتح على مجالات جديدة تهم قطاعي الطاقات المتجددة والبيئة، وقطاع المال، والنهوض بحقوق الانسان. كما جاءت مشاركة صاحب السمو الملكي الأمير مولاي رشيد في احتفالات تونس بالمصادقة على هذا الدستور يوم 7 فبراير الماضي، ممثلا لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، وكذا مشاركة المغرب، ممثلا في شخص السيد عبد الكريم غلاب، رئيس مجلس النواب سابقا، في الجلسة الاستثنائية الاحتفالية التي عقدها المجلس التأسيسي المخصصة للتصديق على الدستور التونسي، لتؤكدا ترحيب المغرب بهذه المصادقة واعتبارها خطوة هامة في مسار الانتقال الديمقراطي ومؤشرا إيجابيا هاما لمستقبل واعد نحو استكمال بناء تونسالجديدة. و.م.ع