فعلا قصة البلدين الشقيقين تثير الاستغراب، بل وتجعل المتمعن في تاريخهما وجغرافيتهما وقصص كفاحهما للاستعمار تجعله يصاب بصداع نصفي، إن لم يكن كلي يشل حركة الدماغ عن التفكير السليم وهو يلاحظ كمية العداوة التي تصبها الجزائر في واقع العلاقات بينهما. ماذا حدث ويحدث بين بلدين اختلطت دماء ابنائهما في أكثر من واقعة ضد جيوش فرنسا من أجل الاستقلال والكرامة، سواء هنا على أراضيهما أو هناك مابعد البحر المتوسط يوما ما في تاريخ محاربة النازية؟ ماذا حدث حتى تصبح الجزائر أكبر عدو لمصالح المغرب أينما وجدت، خصوصا في إفريقيا والاتحاد الأوروبي؟ ماذا ستستفيد الجزائر من محاولاتها إضعاف المغرب في علاقاته الدولية الاقتصادية والسياسية؟ إذا كانت تريد الزعامة فلا مانع لأحد، علما أن عملية التزعم هي أولا عملية وجدانية تكسب القلوب، من جراء أفعال الخير ومد يد المعونة للغير والقدرة على الدفاع عن الضعفاء. الزعامة لاتشترى بالمال ولاتكسب بالقوة لأنهما أداتين متغيرتين حسب الزمان والمكان. هل للجزائر على المغرب ديونا مادية ليجلسا سويا ويتحاسبا ويسويا المشكل وإن كان باللجوء إلى قروض بفوائد؟ هل أخذت المملكة للجمهورية الشقيقة شبرا من أرضها طبقا للحدود المصطنعة والإتفاقية التي ورثاها عن الإستعمار والتي لا تستقيم مع واقع الحدود الطبيعية و التاريخية، ليفكرا ببساطة للجوء إلى تحكيم دولي أو إلى القانون والقضاء وتسوية المسألة في ظرف وجيز وبكل الود والمحبة؟ هل كان المغرب مستعمرا لها، وقتل أبناءها وشرد أطفالها واغتصب نساءها كما فعل الفرنسيون الذين لم يعتذروا عن الإستعمار ومازالوا يستفيدون من خيرات وخدمات أبناء الجزائر؟ هل السبب هو قضية الصحراء المغربية فهي على كل حال معروضة على انظار المجتمع الدولي، ومسلسل حلحلتها سهل لولا تعنت الجزائر ومع ذلك يمكن القول أنها لاتفسد للود قضية ولا للعلاقات طبيعتها العادية لو فقط تتخلى الجزائر عن دورها غير المحايد في القضية لتبقى طرفا ملاحظا في الأمم المتحدة؟ ألا يعلم الجزائريون أن حقائق الجغرافيا والتاريخ وقوانينهما في بناء شعب واحد بثقافة واحدة ولغة واحدة وتاريخ مشترك أقوى من مخططات آنية تروم خلق واقع آخر، ألا يعلمون أن قوانين التاريخ وسننه أقوى من التيارات المستحدثة داخل البناءات الاجتماعية؟ ألا يدركون أن التفاهم سيخلق قوة عاتية في جميع الميادين، تعود بالنفع على الجميع؟ ألا يعون أن الشعب مل وسئم من قصص العسكر عن المغرب أمام هول المنجزات وحجم القبول الذي يحققه في كل الميادين وفي كل البقاع؟ هلا حدثونا عن الأسباب الحقيقية لرفضهم جميع دعوات المملكة بفتح الحدود ومد اليد لها كما تمدها لهم المصافحة والتجاوز؟ أن يخرج وزير خارجية الجزائر رمز سيادتها الخارجية، بتصريح أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه ملئ بالحقد الدفين ولجوء إلى مقولات شعبوية تعبر عن ضعف دولة الشهداء في الاستعمار وحتى في الاستقلال، بلاد العشرية السوداء حيث ذبح الأطفال والنساء والشيوخ على يد مدربين على القتل تخرجوا من مدرسة العسكر، ضعف أمام مجاراة سرعة المغرب في إقناع الأفارقة بعهد تشاركي جديد زعامة جديدة. الجزائر اليوم لا تريد أن تعي أن المغرب الجديد لايريد زعامة فردية أو مشخصنة و لايريد تخليد إسمه في سجل الزعماء والقادة المبجلين المدججين بالنياشين والألقاب والتماثيل، بل يريد إفريقيا الجماعة إفريقيا المشاركة إفريقيا جسد واحد. حرب الزعامات الفردية في إفريقيا كانت على أشدها بعد مرحلة فك الإرتباط المباشر بالمستعمر فنشأت إفريقيا معاقة مشلولة رغم مايختزنه ماؤها و ترابها من ثروات تسيل لعاب “العالمين” في الشرق وفي الغرب. فهذا القذافي “ملك ملوك إفريقيا”، من منجزاته خطب الجمعة في منابر مساجد إفريقية للتبشير بنظريته العالمية الثالثة،حرر فيها لسانه فيما لم يكن حرا في قراراته، فلم يزد القارة إلا تصدعا ونفورا. وهذا موبوتو سيسي سيكو الذي تنكر لرئيسه لومومبا، وكان من أهم منجزاته محاربة المسيحية ومنع إستعمال أسمائها فغير حتى إسمه من جوزيف إلى موبوتو وإسم بلده من الكونغو إلى زائير وزاد بلده فقرا وقهرا ليقضي بعد الإنقلاب عليه ثم يقضى على المنقلب عليه كابيلا بنفس السلاح وهكذا. وهذا موغابي زيمبابوي الذي حن إلى الماركسية فجعل بلاده في تخلف وفي أزمة إقتصادية كبيرة بسبب منجزه غير المدروس، سياسة الإصلاح الزراعي وتأميم الأرض و الذي تباهى بها أمام العالم في محاربة الرجل الأبيض. وهذا الإمبراطور بوكاسا الأول، زعيم وسط إفريقيا، الذي لم يقنع بلقب رئيس أو ملك، والذي جر عليه اتهاما خطيرا بأكل لحوم البشر، من أهم منجزات زعامته إسلامه ليوم واحد بمناسبة التوقيع على إتفاقية مع الزعيم القذافي، وإنجاز آخر لايقل أهمية وهو انتشار أولاده عبر بقاع المعمورة. وهذا يوري موسيفيني رئيس أوغندا ومن أهم منجزاته دعم عرق التوتسي ضد الهوتو في وسط إفريقيا فكانت الإبادات الجماعية في منطقة وسط إفريقيا وفي رواندا تحديدا. الراحل مانديلا رغم قناعاته الحقوقية القوية و إيمانه بالمواطن الإفريقي لم يتمكن من خدمة الوحدة الإفريقية أكثر من خدمة حزبه الذي لايبدو أنه يتحلى بأخلاق مانديلا في خلق توافق و انسجام داخل القارة بل ساهم في الفوضى وفي انتكاسة القرار المستقل. وهؤلاء مبارك مصر، بورقيبةو بنعلي تونس و لوران غباغبو ساحل العاج وموسى داديس كامارا غينيا وحسين هبري تشاد، كلها زعامات متابعة بجرائم حرب أو اغتصاب أو قتل وغيرها من الجرائم، ولم يقدموا شيئا لإفريقيا. الخلاصات هي أن زعامات الجيل الأول والثاني في إفريقيا لم تخلق الوحدة، ولم تبني الأمل، بل صنعت الشتات والفشل لتتيه القارة في مسير البحث عن زعامة تطلق سراح كفاءاتها وقدراتها في ظل عالم يعيش على وقع صراع بين زعامات متنوعة من أجل الزعامة والتسيد، كما كان تاريخ البشرية دائما. حركة المغرب اليوم في إفريقيا من أجل فعل قاري منشئ لمنطق جديد للتواصل داخل البيت الإفريقي، ومؤسس لقيم علائقية من جيل جديد تحترم الإنسان والمجال الإفريقيين، بل وتحرص على إرجاع ثقة مفقودة بفعل فاعل أجنبي وبفعل تهور وصراعات شخصية عقيمة تحت نفس السقف. المغرب لايقدم نفسه كزعيم قاري أو كقوة مسيطرة، وإنما يسعى إلى تصحيح مفهوم العمل المشترك وإعطائه قيمته الحقيقية بعيدا عن منطق السيد والعبد وفق منظور جديد للمصير المشترك. وتلك رسالة و مشروع لخلق نظام قاري تنافسي جديد، يواجه مقاومة الزعامات الفردية المتبقية والتي شاخت فتجاوزها الزمن في القارة. مسألة العداء الجزائري للمغرب أبعد بكثير من يكون عداء نابعا عن مصالح اقتصادية أو سياسية أو حتى ترابية التي يمكن حلها جميعا ببضع جلسات ووساطات أو باللجوء إلى القانون والمؤسسات الدولية إن اقتضى الأمر، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تأخذ كل هذا الوقت، الذي يزيد عن أربعين سنة وأكثر من العداء والكراهية والخناق على الشعبين وعلى شعوب المنطقة ككل. المشكل يكمن في وجود قيادة جزائرية تنتمي إلى عهد الحرب الباردة، والتي وجدت نفسها أمام مهمة تدبير شؤون دولة فاقدة لذاكرتها، لتاريخها ولهويتها، وطبعت على قلبها ثقافة الإستعمار وثراته الذي ترسخ في البلاد جراء العقود الطويلة من جثومه على قلوب الجزائريين منذ العثمانيين إلى الفرنسيين. الإشكال الكبير يكمن في الهوية الثقافية بمدلولها العام. الإشكال قائم بين أمة حافظت على ثراتها وثقافتها في كل المجالات، بما في أدنى أنماط العيش كاللباس وطرق الطبخ، ثم قيمها الذي يتجلى أساسا في الحفاظ على قيمة الأسرة والجماعة، وبين شعب أفقدته الاستعمارات المتتالية روحه الثقافية بل وجذور هويته فحاول أن يعيش حينا كالأتراك، وحينا آخر كالفرنسيين كآخر مستعمر أنساهم ضرورة الحفاظ على الأسرة ليبنوا للعجزة من أصولهم دورا لايوائهم بعيدا عن فروعهم، انسوهم عمارتهم فاستوردوا من المغرب يدا عاملة حرفية ماهرة العمال والحرفيين في فنون العمارة والجمال المعماري، والذين مازلوا يعبرون الحدود خلسة للعمل عندهم، بل وأنهم استوردوا حتى طرق تنظيم الحفلات والأعراس بما في ذلك “النكافات” وطرق إعداد الولائم. ولاشك أن ساكنة المدن الحدودية المغربية عايشوا فترة فتح الحدود سنة 1988، ولاحظوا تهافت الأشقاء الجزائريين على اقتناء طواقم إعداد الشاي المغربي، لتعطشهم “للمة” الدافئة، والتجمع العائلي حول صينية الشاي، وماتعنيه من اقتسام للمشترك ونقل للقيم، والمختصون في الانثروبولوجيا يعلمون مدلول هذه الرموز الثقافية البسيطة في التعبير عن الهوية الثقافية. هذه الأمور التي قد تبدو بسيطة توليها الأمم العريقة كعدد من دول آسيا كاليابان والصين ودول أوروبية أخرى، أهمية كبيرة لكونها إرث بمثابة خزان للقيم الجماعية يشد ويقوي أواصر الارتباط بين لبنات المجتمع، فتسعى الدول للحفاظ عليها وتدعيمها وعدم السماح باستبدالها بتقاليد اهرى قد تغير شكل وهوية البلد. وفي جانب آخر، كان كلما أنجز المغرب إنجازا في عدد من المجالات تجد الحزائريين يقلدون المنتوج، ويسيرون في طريق المملكة بدون شعور. عندما قرر المغرب تبني ثنائية برلمانية وإحداث نظام الغرفتين في الدستور المستفتى عليه في شتنبر 1996، سارت الجزائر على نفس النهج ووضعت نظاما مشابها واستفتاء على الدستور في نونبر من نفس السنة؛ بنى الراحل الحسن الثاني مسجدا كبيرا في الدارالبيضاء فجاء بوتفليقة ليحاول بناء مسجد شبيه؛ أقام المغرب دروسا حسنية رمضانية فجاء بوتفليقة بالدروس الرمضانية المحمدية؛ وفي أحد الأيام وأثناء تدشينه لأحد المتاحف المعمارية المغربية في الجزائر، تكلم الرئيس بوتفليقة باللغة الفرنسية وقال أن المغاربة حافظوا على ثراتهم عكس الجزائريين الذين لم يفلحوا في ذلك؛ فاستمر التقليد في كل شيء تقريبا بما في ذلك الموسيقى والأغاني وحتى إحداث القنوات التلفزية والإذاعات، فعندما دشن المغرب قناة وإذاعة محمد السادس للقرآن الكريم فكر الجزائريون في هذا الموضوع لينشؤوا قناة مشابهة في 2009. ومن قبل ذلك حاول الرئيس الراحل هواري بومدين تحفيز الجزائريين على النشاط الفلاحي لمحاكاة المغرب وأحدث “الثورة الزراعية”، ورغم حجم الإمكانات التي وفرت، والمساحات الكبيرة للأراضي، إلا أنه فشل في ذلك، والسبب ببساطة هو أن إمتهان الزرع هو ثقافة متجذرة، مرتبطة بحب للأرض والماشية يورثه الأجداد للأبناء والأحفاد وهي ليست مهنة تقنية بدون قلب. وفي الحقيقة ، هم معذورون بفعل ضغوط الاستعمارات المتتالية، ومع ذلك فإن المغاربة بإمكانهم أن يقدموا لهم كل الدعم والسند لبعث الحياة في ذاكرتهم، إذا مسؤولوهم الرسميين تحلوا بصفات الرضى والقبول. الرئيس الجزائري بوتفليقة ، تساءل سنة 1999 بعد وفاة الملك الحسن الثاني عن سر إعجاب الناس بالمملكة وبالسياحة فيها، ليقول أن المغاربة لا يملكون شيئا سوى “قش بختة وفناجن مريم” حسب مصطلحاته التي استعملها، وقال أيضا أن المغاربة “حكرونا” ثلاث مرات عندما تحدث عن هزيمة حرب الرمال 1963، والتي لو كان المغرب فعلا له أطماع في الجزائر، لكان الجيش المغربي في قلب العاصمة الجزائرية في بضع ساعات، ولكنه انسحب بعدما حاول أن يرجع للجزائريين رشدهم بعدم محاولة زعزعة النظام الملكي، وهم وقتئد على مذهب وقبلة جمال عبد الناصر. كل هذا يدل على عقدة الجزائر هي عقدة ثقافية بالدرجة الأولى تجاه المغرب، وأن زوالها مرهون بزوال جيل الحرب الباردة بكامله في الجزائر، ومرهون أيضا بظهور جيل قيادي جزائري جديد غير معقد ثقافيا، بإمكانه التفاوض مع الجيل القيادي الجديد في المغرب، جيل البراغماتية والمشاريع جيل غير مؤمن كثيرا بإيديولوجيات الزمن البائد. * باحث في العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط.