الخط : إستمع للمقال تميل بعض الأدبيات إلى توصيف النسخة التقليدية من المخزن بكونها "حارس التوازنات". غير أن التحولات العميقة لمغرب الألفية الثالثة، والتي هي محكومة بالشروط الداخلية والإقليمية والدولية، سيكون من مآلاتها إعادة تعريف أدوار المخزن، ليتحول من كونه آلية ضبط سلطوي غير قابل للفهم أحيانا إلى فاعل مركزي في صناعة الاستقرار، وإرساء الأمن بمنظور استباقي، وتدعيم ثقة المجتمع في الدولة ومؤسساتها بأفعال عاقلة معللة وقابلة للقياس. ويصبح فهم هذا التحول أكثر يسرا، عند توطينه في السياقات الجيوسياسية المضطربة لعالم اليوم، بما يسعف بتمثله أكثر من تلاؤم مؤقت مع رهانات أمنية متزايدة، إلى فهمه كحلقة ضمن سلسلة إعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع؛ حيث يمسي المخزن مجالًا ديناميًا يتحرك وفق منطق جديد يستجيب لمقتضيات الحكامة الأمنية الحديثة، ويؤسس لمرحلة جديدة من الانفتاح على متطلبات احترام حقوق الإنسان، حتى في أكثر المجالات حساسية، مثل محاربة الإرهاب والجريمة المنظمة، بل حتى في أكثر لحظات إنفاذ القانون حساسية واستدعاء للتوتر، من قبيل اللحظات الميدانية لتحييد خطر التطرف. 1- الأمن الاستباقي: من تدبير الخطر إلى الحماية المستدامة. تبصم المدرسة الأمنية المغربية على نهج خاص يعتمد العقيدة الاستباقية من أجل درء التهديدات الأمنية، في تلاؤم مع احترام الحقوق والحريات. ولعل ذلك تعليل كاف لارتفاع أسهمها بالاحتفاء والتوشيح دوليا، ولمسارعة مدارس أمنية إلى طلب سندها الميداني تارة أو طلب تقاسم جانبياتها ومهاراتها تارة أخرى. ومن المهم تسجيل كون النجاحات التي حققتها الأجهزة الأمنية في تفكيك الخلايا الإرهابية، وإجهاض المخططات التخريبية قبل وقوعها لم تكن نتيجة عسكرة المجتمع أو الانجرار إلى منحدر دولة بوليسية، بل هي نواتج مقاربة متكاملة يتعاضد فيها الرصد الاستخباراتي الفعّال، والتنسيق الأمني الدولي، والاشتغال الهادئ الرصين على تفكيك البُنى الفكرية المغذية للعنف. هذا البعد الأخير هو عمل نقدي لم ينل حظه من التقدير، لكونه ضامنا أساسا للمصالحة وإعادة الإدماج، بما يقطع دابر كل حالة عود. وسيكون من السذاجة اليوم، مقاربة الأمن كمجرد أداة ضبط، بل هو عملية معقدة يتعالق فيها الأمني مع الاجتماعي والديني والثقافي، بما يجعل كل رؤية لا تدمج هذه الأبعاد في فهمها للمخزن الجديد مطبوعة بعمى الألوان. 2– مكافحة الجريمة المنظمة: بناء ثقة مجتمعية متجددة. إن الاستقرار الاجتماعي مشروط تحققه بإعادة ترميم كل اعتلال يعرض للثقة بين المواطن والدولة، وهي الثقة التي لا سبيل إليها بشعارات باردة كتلك التي تعلو بها حناجر وزراء "التغول" في مهرجانات بئيسة عند نهاية الأسبوع، بل هي أفعال على أرض الواقع، ترسخ الاعتقاد الجازم أن سلطة القانون تحكم الجميع، من غير استثناء أو مواربة، تماما كما يكشف عن ذلك أداء " البسيج" الذي رأى النور وفي يده تفكيك شيفرة جريمة، أو كما تكشف عن ذلك أداءات الأجهزة الأمنية عموما في تصديها للجريمة المنظمة، أو الاتجار بالمخدرات أو جرائم المال العام، أو حتى في الاتجار بالبشر الذي لم يكن أحد يتصور أن تتسلل يده الآثمة إلى أجساد نساء كنا نحسبهن في عداد الإنتلجنسيا العالية المناعة ضد الاسترخاص الذي لا سبيل إلى تبييض ماضيه بكلمات باردة على السوشل ميديا. غير أن الحرص مرة أخرى على أن لا نكون نحن أيضا مصابين بعمى الألوان، يفرض التنبيه إلى أن أي جهاز أمني قوي بشكل مستدام، يقتضي تبعا لذلك جهازًا قضائيًا نزيهًا، وإدارة عمومية شفافة، وإعلامًا حرًا وغير متحيز في مواكب هذه التحولات دون أن يسقط في التهويل أو التسييس. سيكون كل هذا المشهد ناقصا إذا لم يسنده مواطنون متبصرون بكل ما تقدم وبأهميته، بما يجعلهم على الأقل واعين باختيار منظومة حكومية تعمل هي الأخرى على تغذية الثقة في المنظومة الأمنية عبر تعزيز العدالة الاجتماعية، ومحاربة الفساد وتضارب المصالح وخلق مناخ اقتصادي يمتص البطالة ويحد من دوافع الانحراف، بدل أن تجعل الأمني في مواجهة أشكال من الغضب الاجتماعي تصنعها الأذرع السياسية المكسورة Les bras politiques cassés. 3– من الشك المؤقت إلى التطبيع الغريب مع العنف: وفي هذا السياق، تبرز أصوات مشككة في مدى صدقية بعض العمليات الأمنية ولو بذلك التعبير الأيقوني بضحكته الصفراء، متذرعة بوجود "مبالغة" في توصيف المخاطر، أو بتعمد "مسرحة" عمليات التوقيف، أو متلبسة بتأويلات سياسية تحاول تسفيه الجهود الأمنية من باب المعارضة الأيديولوجية لا النقد الموضوعي. قد يبدو الشكل الأكثر تعقلا من هذه النزعة التشكيكية كحريص على الحقوق والحريات، لكنها في حقيقة الأمر تفصح عنه مشكل أعمق، يتمثل في التطبيع غير الواعي مع العنف، والاستهانة بخطورته، وكأن الخطر الإرهابي مجرد تشويش عابر لا يستدعي حزمًا أمنيًا صارمًا. هذا الوضع يضعنا في مواجهة سؤال أخلاقي وسياسي: هل يتأتى لمجتمع ديمقراطي متمدن حريص على تقوية مؤسسات الدولة أن يستهين بخطر الإرهاب، ويسمح لمفردات التشكيك أن تأخذ أحيازا في التداول؟ لا نحتاج في هذا المقام إلى التذكير بالحدود الرفيعة بين النقد البناء والتشكيك العبثي المتصابي والمستند إلى "انفعالات أيديولوجية". أكاد أقسو وأقول: إن التشكيك يفضي إلى التطبيع، وهذا الأخير يفضي بالضرورة إلى اقتراف العنف رمزيا كان أم ماديا. أكتب مقال الرأي هذا، في ذكرى فبرايرية حالمة، دعت إلى إصلاح سياسي واجتماعي مستنير بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. وبين زمن اللحظة وزمن ذكراها، سيكون من الإجحاف والتطرف، عدم الإقرار بمسلسل الإصلاحات الشاملة دستوريا واقتصاديا واجتماعيا. وهي الإصلاحات التي امتدت روحها إلى المؤسسات الأمنية وانعكست في إعمالها لمعايير حقوق الإنسان وفي أنسنتها للأداء الأمني الممتد في كل فضاءات السلطة، مسهمة بذلك في رسم ملامح ما أسميه المخزن الجديد الذي أريد. وكما كانت لي الجرأة ذات زمن فبرايري جميل على النقد، فلن أكون اليوم أقل جرأة في تسجيل التحولات والاحتفاء بها وتهنئة مهندسيها. وهو الاحتفاء الذي لن يكون توقيعا لشيك على بياض، ولكنه مساندة نقدية حريصة على تعزيز المكسب وتثمينه، وغير مترددة في التنبيه بصدق ومن غير مزايدة إلى كل اعتلال يقتضي التصحيح. الوسوم الجزائر المغرب فرنسا