الخط : إستمع للمقال كتب الصحافي والكاتب الإعلامي، رشيد نيني، مدير يومية الأخبار، مقالا، تطرق فيه للخرجة الأخيرة لوزير العدل الأسبق، والقيادي في حزب العدالة والتنمية، مصطفى الرميد، والتي تحدث فيها عن الدولة العميقة في المغرب، معتبرا إياها، نعمة جاد بها الله على بلدنا. وجاء في المقال المذكور المنشور في عدد اليوم الإثنين من يومية الأخبار: دون مناسبة عاد وزير العدل الأسبق المصطفى الرميد لكي يعيد تدوير الكلام المكرور الذي لا يفيد، معلنا النهاية الحتمية لحزب اسمه العدالة والتنمية، مذكرا بمعاناته مع أمينيه العامين ورئيسي الحكومة السابقين اللذين اشتغل معهما من موقع الوزارة. وسواء في لقائه بالمحامين في فاس أو حديثه للصحافة فإن الرميد يظهر مسكونا كعادته برغبة محمومة في تبييض ماضيه وإلصاق جميع النقائص بالآخرين. ولعل ما أثار الاستغراب في تصريحاته قوله إن الدولة العميقة في المغرب نعمة من الله، مع أن الجميع يعرف أن حزبه قضى سنوات طويلة في المعارضة وعشر سنوات في الحكومة يحاول تدمير أسس الدولة العميقة والتشكيك في مصداقية أجهزتها، حتى أن بنكيران أطلق على الدولة العميقة اسم العفاريت والشياطين لكي تسهل عليه مهاجمتها دون الاضطرار لتسميتها باسمها الحقيقي. والرميد نفسه كم مرة «قلز من تحت الجلابة» لوزارة الداخلية، لعدم امتلاكه الجرأة الكافية لكي يواجهها مباشرة، والجميع يعرف مكانة الداخلية في هندسة الدولة العميقة. والرميد يتحدث اليوم عن أهمية الدولة العميقة في المغرب كما لو أنه كشف سرًّا من الأسرار الربانية. وله ولغيره أود أن أقول: بالأمس كنتم تتحدثون عن الدولة العميقة كنقمة والآن فقط ظهرت أهميتها وصارت نعمة. عندما كان العالم العربي يغرق في أوحال الفوضى الخلاقة التي صنعتها هيلاري كلينتون وسموها في مختبراتهم الجيواستراتيجية «ربيعا عربيا»، وخرج الرميد في الصفوف الأمامية في مسيرة الرباط حاملا لافتة مكتوبا عليها «لا ديمقراطية حقيقية بدون ملكية برلمانية»، كيف يا ترى خرج المغرب من هذا المستنقع بسلام في وقت انهارت حوله أنظمة مثل القش وتحولت إلى دول فاشلة وسيق قادتها نحو السجون أو المقابر؟ أليس لأن الدولة العميقة كانت سابقة للأحداث، ملمة بتفاصيل اللعبة، عارفة لمآلات وتطورات السياقات؟ عندما ضرب الإرهاب دولًا تعد من أقوى الدول وأكثرها تقدمًا في العالم، لمن لجأت هذه الدول الجريحة في كبريائها لطلب المساعدة للخروج من هذه الدوامة التي دخلتها؟ أليس إلى الدولة المغربية العميقة؟ وقبل هذا وذاك، عندما كانت الأنظمة العسكرية تطيح بالملكيات في الدول العربية وتتوج نفسها حاكمة باسم المعسكر الشيوعي تحت ستار جمهوريات من قش، هل سقطت الدولة المغربية في هذا الفخ؟ هل نسيتم كم من محاولة انقلابية فاشلة استهدفت الملكية بالمغرب، كم جنرالا كان يجب أن ينتهي مربوطا إلى عمود الإعدام صبيحة العيد وأن يخترق الرصاص بزته العسكرية لكي لا تسقط الدولة بين أيدي عسكريين مغامرين يحركهم سياسيون ولاؤهم للنجمة الحمراء وللحرية التي لديها باب واحد يجب أن تكون يدك ملطخة بالدماء لكي تدقه؟ هذه الدولة عاشت الانقلابات والمؤامرات الداخلية، وخاضت الحروب بجيوشها في الصحراء دفاعا عن وحدتها، وحاربت في سيناء والجولان دفاعًا عن فلسطين، وحاربت قبل ذلك مع الحلفاء لصد الديكتاتوريات الفاشية الإيطالية والنازية الألمانية. تتحدثون يا سادة عن دولة عمرها أكثر من 12 قرنا وليس عن شبه دولة رسم حدودها جوابو آفاق إنجليز حول بئر نفط، أو عن جمهورية تخيلها مقيم عام فرنسي وأطلق عليها اسما وضمها لمقاطعات بلاده قبل أن يمنحها بعدما قضى منها وطره ما يشبه استقلالا. لذلك فهذه الدولة العميقة التي تتخيلون أنها كانت غائبة وعادت فجأة كانت دائما حاضرة، سوى أنكم لم تكونوا ترون منها سوى جزئها الظاهر الذي يرتبط بمصالحكم وامتيازاتكم وبوضعكم الاعتباري داخلها. ومن كثرة ما خذلتم الدولة بجبنكم وبهدلتم مؤسساتها بتهافتكم وتركتموها وحيدة تواجه خصومها من أبناء جلدتكم المسلحين بحقدهم الدفين عليها مدعومين بكل ترسانات المؤسسات الدولية الحقوقية التي وضعتها مختلف الإمبرياليات تحت تصرفهم، فقد تراءى لكم أن الدولة انكمشت وخافت وتراجعت نحو العمق، مكانها الطبيعي، فيما هي في الحقيقة تحصن نفسها وتستفيد من أخطائها وتقوي من قدراتها التفاوضية التي جعلتها طيلة قرون تحافظ على استمراريتها رغم تغير الحقب والظروف والأشخاص. هذه الدولة التي لطالما اتهمها الجميع بشتى التهم، الإسلاميون ظلوا ينعتونها ب«العميقة» التي تشتغل ضدهم في الخفاء بعفاريتها وتماسيحها وبقية حيواناتها البرمائية التي تعيش في الماء وفي اليابسة. اليمينيون ظلوا ينظرون إليها كبقرة حلوب خلقت من أجلهم وأجل أبنائهم إلى يوم الدين، لذلك فهم دائما ملتصقون بأثدائها مثل جراء جائعة. اليساريون ظلوا ينعتونها بالرجعية والشمولية ويطالبون بتفكيكها وإعادة بنائها من جديد، وقد جربوا ذلك طوال خمسين سنة فانتهوا مفككين إلى ألف حزب وفصيل فيما الدولة بقيت متراصة محافظة على دوران أذرعها الجبارة التي تطحن كل من يريد أن يلعب معها لعبة رمي البراغي بين مفاصلها الفولاذية. وليس صدفة أن الدولة المغربية حافظت على اسمها القديم الذي هو المخزن، والذي يعني الجهة المكلفة بحفظ وتخزين وضمان التموين. ففي الحقب الماضية كانت شرعية الحاكم تقاس بمدى قدرته على توفير الأكل للرعايا. وبدون مخزن ليس هناك تموين، ومن هنا نشأ المخزن الذي هو أصل وجود الدولة وضامن استمرارها. وفكرة المخزن ليست غريبة عن المغاربة، ففي كل بيت هناك مكان نسميه «المخيزن»، وهو تصغير للمخزن الكبير، وفيه تضع العائلة مدخراتها الغذائية من شعير وعسل وزيت ولحم مقدد وغيره. فلكي يحكم رب البيت ويسود داخل أسرته الصغيرة عليه أن يوفر مدخرات للمخيزن تحسبًا للأيام الصعبة، وكذلك الشأن بالنسبة للحاكم الذي يشرف على المخزن الكبير. وعندما ضربت الجائحة البلد وأجبرت مئات الآلاف من العمال المياومين البسطاء على البقاء في بيوتهم، من وزع عليهم المواد الغذائية؟ أليس المخزن من صنع ذلك؟ من صرف لهم مساعدة شهرية لكي يقضوا بها حاجياتهم الأساسية؟ أليس المخزن؟ من تكلف مجانًا بعلاج المصابين بالفيروس وتغذيتهم أثناء نقلهم وإيوائهم بالمستشفيات؟ أليس المخزن؟ وقد رأينا كيف وضع الجميع يديه خلف ظهره ووقف منتظرا من الدولة أن تجد له حلًا. أصحاب الشركات الكبرى والصغرى والمتوسطة والقطاع غير المهيكل، الصناع والفندقيون والمصدرون وأصحاب المهن الحرة والموظفون... الجميع وقف ينتظر أن تمد له الدولة يدها لكي تنتشله من المستنقع. والدولة في الواقع لا تصنع شيئًا آخر سوى التفكير في حلول لكل هؤلاء الناس، لأن هذه وظيفتها وسبب وأصل وجودها. الوسوم الدولة العميقة الرميد مصطفى رشيد نيني