الخط : إستمع للمقال إن «أزمة القيم» اليوم بشكل عام، وأزمة الأسرة بشكل خاص، هي أزمة عالمية ومتكررة عبر تاريخ المجتمعات البشرية. هي أزمة تظهر مع كل تحول مجتمعي. فالأسرة تُعتبر ركيزة كل المؤسسات الاجتماعية الأخرى. فهي تظل – وعلى الرغم من كل التغيرات العميقة التي نلاحظها اليوم – قيمة أساسية تعكس فعالية المجتمع أو اختلاله. ولهذا فإن أي خطر لانهيار الأسرة يمكن أن يؤدي إلى انهيار المجتمع نفسه. لقد أثرت الأزمة العالمية للقيم العائلية على مجتمعات الجنوب، وخاصة المجتمعات الإسلامية، بسبب التوترات المختلفة التي عانت منها تباعا الاستعمار والحداثة والعولمة الاقتصادية وخاصة دخول المرأة إلى سوق العمل والمساهمة في نفقات الأسرة. ففي هذه السياقات وحتى الآن، لا تزال مؤسسة الأسرة، باعتبارها ركيزة مجتمعية، تحافظ على القيم الأخلاقية المتوارثة عن الأجداد كاحترام الوالدين، والتضامن الأسري، على الرغم من النظام الأخلاقي المُعولم الذي يدمر الروابط الأسرية. ولا تزال الأسرة تشكل آخر حصن للقيم الثقافية، وللهوية الاجتماعية والدينية، وبالتالي تمثل ذلك الموقع الذي تتراكم فيه جميع المخاوف وآخر برج لمقاومة التحديات الاجتماعية. كل هذا يدفعنا اليوم إلى بناء وتصور مقاربات جديدة، لا سيما الاجتماعية والقانونية، من أجل الحفاظ على قلب وتوازن هذه البنية المجتمعية التي تظل حاسمة في تماسك المجتمع وتطوره. نعم بنية أسرية ينعم فيها الرجال والنساء بالحرية والمسؤولية المتبادلة. إن الحفاظ على الأسرة يحتاج اليوم إلى تجاوز النموذج التقليدي والحداثي المهيمن أي إلى رفض كل ما يؤدي إلى التقليل من قيمة الروابط الأسرية أو إلى الاعتماد على التميز والسلطوية. نحن بحاجة إلى أسس أسرية مبنية على أسس أخلاقية، كالمساواة في الحقوق والواجبات والمسؤولية العادلة بين الزوجين. والأسئلة التي لا يزال طرحها حاسم بالنسبة لهذه القضية هي التالية: كيف يمكننا الخروج من المأزق المترتب عن ازدواجية المرجعية؟ هل حقوق الإنسان تتعارض فعلا مع القيم الدينية؟ هل الإطار الديني الذي يعيش فيه غالبية المغاربة غير متكافئ وتمييزي كما يُعتقد في كثير من الأحيان؟ سيكون من الصعب جدًا الإجابة على هذه الأسئلة المشروعة بشكل قاطع، لأن الإجابات مرهونة بالقراءات التي يُعتمد عليها في كل من السياق الديني أو الحقوقي. ولكن ستتم محاولة الإجابة هنا – وهذا هو جوهر عرضي – من خلال تفكيك ما يسمى بالرؤية "الكونية لحقوق الإنسان" ورؤية "الدينية أو بالأحرى بالخطاب الديني المعاصر"، من أجل المجازفة بفتح طرق أخرى لإعادة بناء المفاهيم واقتراح البدائل التي من شأنها أن تأخذ بعين الاعتبار وبدون ازدواجية متناقضة كل من المبادئ الأخلاقية الجوهرية للإسلام، والتحولات المجتمعية الحالية والخيار الديمقراطي الدستوري للمغرب. عن أي حقوق كونية نتحدث؟ في الواقع، لقد اختزلت أيديولوجية غربية معينة فلسفة حقوق الإنسان بأكملها إلى هذه الرؤية العرقية لكونية المعرفة والقيم المتفردة والتي غالبًا ما تكون مبنية على علاقة الهيمنة وتهميش لمكونات المعرفية الأخرى، ولا سيما من الجنوب. وهذا النهج أصبح اليوم موضع تساؤل من قبل العديد من المفكرين – سواء من الجنوب أو الغرب – الذين يؤكدون على أن كل المعرفة المتراكمة خلال القرون التي سبقت النهضة الأوروبية تأتي من تراث عالمي حقيقي متعدد الثقافات كما كان في الأندلس على سبيل المثال – ولكن أيضًا من الحضارات والفلسفات الآسيوية والإفريقية وأمريكا اللاتينية الأخرى... بل وكما يشهد العديد من المؤرخين المعاصرين، فإن العالم الحديث قد ولد أيضًا في قرطبة تحت قلم ابن رشد أي قبل ديكارت بأربعة قرون فهو بالنسبة للعالم الفلسفي حلقة الوصل الأساسية بين الفكر القديم والفكر الحديث، أي جسر بين العصور الوسطى وعصر النهضة الأوروبية. وهنا تكمن أهمية "المعرفة المتحررة من الاستعمار" (الفكر الديكولونيالي) وظهور الفكر المتحرر من الاستعمار المعرفي كبديل لإعادة بناء "عالمي" أو "كوني" بالفعل يناهض إجرام "القتل المعرفي" (ابستمسيد) الذي يُمَارس على ما يسمى بالعالم الهامشي. فبتفكيك هذه "الكونية" المعرفية من هيمنة الفكر الغربي وإعادة اعتبار مساهمة الشعوب الحضارات الأخرى وسيما الإسلامية سنرى أن كل تلك المبادئ والقيم الكونية هي نابعة من تراثنا وحضاراتنا فلما رفضها طبعا بعد تمحيص وإبعاد ما لا يكون فيها أخلاقياً؟ ومع ذلك، وفي رأيي المتواضع، فإن هذا النقد للكونية لا يمكن أن يكون مشروعًا إلا إذا تم بالتوازي مع النقد الذاتي لمقاربتنا للتقاليد وللمرجعية الدينية، وهذه المحطة هي التي تشكل أحد أكبر التحديات التي تواجه المجتمعات المسلمة اليوم. ولتفكيك مقاربتنا للمرجعية الدينية، سيكون من المهم محاولة فهم ما نعنيه بهذا الإطار المرجعي وتوضيح بعض المفاهيم التي لا تزال مشوشة في "المِخيال الإسلامي". وبالفعل ماذا نعني بالمرجعية الدينية؟ الشريعة؟ الوحي؟ علم الحديث؟ علم التفسير؟ الفقه؟ القانون الاسلامي؟ إن تدخل النظام القانوني الاستعماري ساهم في تشكيل نظام تقليدي نمطي متجمد (أخد الكثير من القانون الفرنسي لنابوليون) بعيد عن مفهوم الفقه الذي كان أكتر انفتاحا على السياقات الاجتماعية في العصور الأولى. إن ما يحدد "اللحظة الاستعمارية" في نهاية المطاف – كما يشير عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي طلال الأسد – هو قدرة الدولة على ممارسة هذا التمييز الاستراتيجي بين القوانين والأخلاق، أي تجريد الفقه من إطاره الأخلاقي وتقنينه في إطار قانوني عبر قوانين صارمة. فمن المهم معرفة ذلك في الوقت الذي تستمر فيه جميع محاولات الإصلاح في البلدان الإسلامية، حتى اليوم، في مواجهة قدسية مدونة الأسرة من خلال ما يسمى بالدفاع عن الشريعة الإسلامية". إن ما يسمى بالقانون الإسلامي والذي يتلخص في قانون الأسرة هو اليوم المعقل الأخير لمقاومة الإسلام بالنسبة للمحافظين، ولكن هو أكثر من مجرد نقاش ديني، فهو في الواقع اليوم خيار أيديولوجي وسياسي بالأساس. وبالتالي، فما هي البدائل الممكنة ضمن الإطار المرجعي الديني للخروج من هذا التوتر بين الرؤية المجردة للمرجعية الكونية و الرؤية المنغلقة للفقه الإسلامي؟ أحد البدائل الواعدة هي تلك المقاربة الإصلاحية التي تعطي الأولوية للفلسفة الأخلاقية للإسلام على عكس ما طبقته قرون من المؤلفات الفقهية التي ركزت على استنباط الأحكام كإطار مرجعي منفرد وشامل خصوصا خلال فترة الانحطاط الحضاري. وهذا أفضى إلى تهميش الجوهر الأخلاقي للنص القرآني والنموذج السلوكي النبوي الذي قال عنه الوحي إنه "على خُلق عظيم" أو كما قالت عائشة " كان خلقه القرآن". يتعلق الأمر إذاً بمنهج يتبنى منظورًا ثنائيا، يعتمد أحدهما على البُعد الأخلاقي والروحي الإيماني والآخر على البعد العقلاني التفسيري للنص القرآني. ولذلك فإننا ننطلق من الفرضية التي تؤكد أن القرآن كتاب حكيم له رؤية كونية متماسكة وتعاليم دينية وأخلاقية وتشرعية مترابطة بشكل وثيق، وأنه لا يمكن فصل رؤيته الأخلاقية عن بعده التشريعي المعياري كما تفعل أغلبية القراءة التقليدية. وقد لاحظ بعض المفكرين المعاصرين أيضًا أهمية هذه الفجوة وكيف أن المعايير الأخلاقية، كمصادر للتعليم الديني، لم تؤخذ بعين الاعتبار في دراسة العلوم الدينية. ومن بينهم المفكرين المغربيين طه عبد الرحمن ومحمد عابد الجابري الذين ورغم اختلاف مقاربتهم الفلسفية، الأول صوفية والثاني عقلانية، اتفقوا على فكرة رئيسية وهي أن إحياء التراث الإسلامي في ظل الحداثة لا يمكن أن يكون فعالاً إلا من خلال خطاب ديني حول الأخلاق. وفي الخلاصة فإن التعليم والتربية لهما دور أساسي في نقل القيم الأخلاقية للأجيال القادمة قصد تلقين الأخلاق كونها مساحة كونية مشتركة للإنسانية جمعاء. يتعلق الأمر بتعليم الأجيال القادمة بأن القيم مثل الكرامة الإنسانية والحرية والعدالة والمساواة والمعرفة والعقل والمحبة واحترام الاختلاف، داخل الأسرة وفي الفضاء الاجتماعي، هي قيم ليست متأصلة في الإسلام فحسب، بل أيضًا في كل مجتمعات الشرق والغرب والعالم بأسره... وأن هذه القيم ليست حكراً على أي حضارة أو ثقافة أو أيديولوجية معينة. (كما قال النبي ص: بُعثت لكي أتمم مكارم الأخلاق). ولذلك ينبغي علينا توعية الناس بأن أي قوانين أو أحكام هدفها هو العدل والمساواة والقسط فهي تدخل في نطاق معايير الأخلاق الإسلامية. وفي هذا يقول الإمام ابن القيِّم رحمه الله:" الشريعة عدل كلها، ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدِّها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل". ولذلك فإن هناك مساحة مشتركة تُوحد الإطار المرجعي الديني مع المرجعية الحقوقية الكونية، وهي مساحة الأخلاق. إن أخلاقيات العدل والمساواة، والمسؤولية المشتركة هي التوازن الأساسي الذي يحتاجه اليوم الرجل والمرأة لكي تسترجع الأسرة معناها ودورها الأساسي في تربية الأجيال القادمة وصنع المجتمع الرصين الذي به يكمن الأمل في مستقبل متوازن وعالم أفضل إن شاء الله.