بقي النقاش حول الاسرة بالمغرب رهين بنقاش سياسي بين نسقين مختلفين في المرجعية ،فالنسق الديني المحتفظ بما يظن انه يتناغم مع معتقداته التي ماهي الا ترسبات لتراث نجهل عنه الكثير ،وحتى الكتابات الإسلامية الفيمنزمية تبقى قاصرة على ان تقدم نموذجا واضحا ومقنعا ،على اعتبار ان القراءة الدينية للاسرة الحديثة تبقى قراءة في مداخلها بحاجة الى تحديد الغايات والاهداف وتحديد المنطلقات باعتبار ان الاسرة المغربية هي اسرة متعددة وتاريخية وتحمل العديد من القراءات يختلط فيها الديني والقبلي والعرف الذي هو عادات امتزجت بين الاخلاق العامة وبين تعدد الثقافات المتوسطية والغربية في مجموعة من الايحاءات التي هي بحاجة الى الفهم والتحليل. لذلك في هاته الحلقة التي نمضي في فهم طبيعة الخطاب الفيمنست الإسلامي بمرجعيات المختلفة سواء التنظيمات الحركية والاخوانية والصوفية وحتى السلفية والهلامية منها ، والتي هي في ظاهرها قناعات شخصية ، لكنها أصبح لها اثر في الضمير الأخلاقي والمعاملاتي في مجموعة من المناطق بالمغرب ، ولذلك هل الاسرة المغربية تعيش حالة من الشرخ القيمي ام انها مهددة بان تصبح هناك قطيعة مع تمثلاتها الأخلاقية والمدركات الجماعية ، التي ما هي الا انعكاس لموروث حضاري نسجته أفكار وقيم حضارية إسلامية ومغربية وعربية وامازيغية ومتوسطية . ففي شح الدراسات وقلة الزاد المعرفي والتاريخي الذي حلل تطور الاسرة المغربية ، يبقى النقاش الساري سياسي بالأساس ،أي انه تحول من نقاش أخلاقي ممزوج بالانتماء القيمي للمغرب الى نقاش بين تيارين مختلفين في المراجع والمنطلقات ، ولذلك حينما بدأ الحديث عن اصلاح مدونة الأحوال الشخصية ظهر في السطح الاجتماعي صراع بين قطبين ديني ودنيوي ،بين من يريد مرجعية محافظة بتقاليدها واجتهاداتها الموضوعة في رفوف الزوايا والكتب الثقيلة الحجم ، والتي لا يقدر عليها الا الراسخون في العلم وبين أفكار مهربة ومنمطة بهويات غربية علمانية مزينة بمصطلحات مثيرة وجميلة ،ولكن حينما تبحث عن أصولها فهي كارثة اجتماعية إنسانية مدمرة . فكلا التيارين اخطأ في نظرتهما للأسرة المغربية ، الذي وقع جعل من الاسرة المغربية تفتقد لرؤية استراتيجية واضحة ، في غياب لإيحاء واضح ،تم تداركه في دستور 2011. ان الخطاب الإسلامي الاسري ينطلق في مرجعياته من الأصول التابثة ،لكن تنزيل هذا الخطاب يتناقض مع مرجعياته ،فهو خطاب يميل الى التمركز حول الذات ،ويجعل الحلقة الضعيفة هي الانثى ،في حين ان المطالبة مثلا بالمساواة بين الزوجين أو المشاركة في الأعباء او مايصطلح عليه بالكد والسعاية وهو مصطلح فقهي اصيل ،يدل على ان التركيز على هذا الاتجاه يهدف الى ابراز ان الانثى في الاسرة المغربية تعيش حالة من الانعزال والضعف والوهن ،وهذا الخطاب يجعل من المرجعيات المحافظة تقع في إشكالية التمركز نحو الانثى بما يؤسس الى تانيث الفقر من خلال الدراسات المنجزة والتي تشكل تحيزا الى الانثى بما يجعل من اللازم الترافع على تغيير هاته النظرة ، وهذا التنميط في الأفكار والقوالب ،مادامت هاته المرجعيات قد طبعت مع النظم الغربية وقوالبها المشكلة من أجل تانيث الاسرة وعلمنتها ، بما يجعلها مؤسسة اقتصادية تعيش حالة من الصراع ، وتفقد هويتها ومرجعياتها الأساسية المرتبطة بخزان القيم الفكري والنفسي للأفراد وللمجتمع ،ولذلك ففي غفلة منا بدعوى الانفتاح على الغرب أو مرجعياته وبرامج دعمه ،نميل الى تمثل شروطه ومبادئه بما يضمن له أريحية في وضع الاطار المرجعي لأشغاله التي ما هي الا ادخال لمصطلحات ظاهرها الرحمة للأسرة وباطنها العذاب والقهر والتشيء والتعلمن ، فتصير اسرة نووية تعيش حالة من الصراع المفضي الى تشكل الأنواع الأخرى التي هي بديل للأسرة المغربية العادية ، ولذلك بدأنا نسمع عن الاسرة الوحدة أي الاسرة المتكونة من الام أو الاب أو الاسرة المثلية والتي ماهي الا انعكاس للدهرانية الاسرية . وكذا سترتفع حالات الطلاق وتنخفض الزيجات وتبقى ظاهرة الزواج القاصر وارتفاع البيدوفيلية المريضة في المجتمع والتي ماهي الا نتيجة لعجز على الاندماج وتأنيث للأسرة، حيث ان غياب الاسرة الممتدة وظهور هاته الاسر الجديدة ، سيجعل من المجتمع المغربي يعيش حالة من الصراع ،ولذلك اهم سمة العلمانية هي الصراع الطبقي وتشيئ الافراد وغياب القيم وظهور قوانين الطبيعة وانحسار الاخلاق التقييم الأخلاقي وعلمنة الأسرة نخشى ان نقع في فخ التطبيع الأخلاقي مع الاسرة الحديثة ،حيث انه كما ذهب الى ذلك طه عبد الرحمان ، الذي اعتبر الاسرة الحديثة تجسد الدهرانية التي ماهي الا فصل الدين عن الاخلاق ، ونميل الى تعريف جميل لهذا الفيلسوف الصوفي ، حيث عرف الاسرة انها المكان الذي تكون فيه الوشائج بين أفرادها محكومة بضوابط أخلاقية، فهي علاقة زواج وما يستتبعه من علاقة بنوة وأبوة وأخلاق تضفي على هذه العلاقة صبغة إنسانية. ولما كانت الأسرة هي موطن العلاقات الأخلاقية، فإنه يصح القول: لا أخلاق من دون أسرة. ونحن بحاجة الى عملية تقييم لأسرتنا المغربية ، فهي وقعت في شباك الحداثة التي قطعت مع الأخلاق الدينية والتي كانت الأسرة تزود بها أفرادها، وقد تجلى ذلك القطع من خلال ثلاثة مبادئ: الأول: الاستعاضة عن الله في كل شيء والتوجه إلى الإنسان، ثم المبدأ الثاني المحدد في القطع مع الوحي الذي كان يوجه الانسان والارتكان الى العقل وحده ، والمبدأ الثالث المرتبط بالتعلق بالدنيا التي فيها السعادة الحقيقية للإنسان. ويمكن القول: إن سلوكيات الأسرة الحديثة تأسست على قيم أخلاقية يختزلها طه في ثلاثة عناصر: المروءة، والإلزام، والسعادة. إلا أنه برغم ما بشرت به هذه القيم الحداثية من اعتماد العقل في تقدير الحقوق والواجبات والحب المتبادل في تحقيق السعادة، لكن حصرها لغاياتها في الإنسان وفي الحياة الدنيا بمتعها المادية ، جَرَّ تضييقًا على أفقها، فانحلت إلى أنانيات وتقاعس عن الواجبات؛ وذلك لكونها قيمًا طارئة غابت عنها الشواهد الأخلاقية المثلى المنبثقة من الدين مما جعلها قابلة للارتداد على ذاتها. وفي عملية التقييم الأخلاقي لا بد ان نعي واقع الاسرة الأخلاقي المغربي ومدى فهمنا للتحولات التي يعرفها حيث أصبحنا قاب قوسين من أثر اخلاق الانانية الفردية ، حيث تفككت العلاقة الأخلاقية بين أفراد العائلة بتخلي كل فرد فيها عن واجباته، وبات القانون تبعًا للوضعيات المتطورة التي عرفتها الأسرة، فلم يعد للقانون "أن يقرر ما ينبغي أن يكون منها، ولا كيف ينبغي أن يكون على مقتضى ما توجبه فلسفة أخلاق الأسرة، بل عليه أن يزكي ماهو كائن منها بالوجه الذي هو كائن على مقتضى ما يقرره علم اجتماع الأسرة" ولذلك فقدت مؤسسة الاب سلطتها الرمزية وتحول هذا المعطى الى تحطيم تدريجي لها ،حيث ظهرت مؤسسات أخرى تعوض سلطته وسلطة الام في الحضانة والموجهين التربويين ،لذلك ليست القوانين هي المسؤولة وحدها على نمط التحول في الاسرة الحديثة بل كذلك تجرد الاخلاق من القيم الدينية . ثانيًا: غياب ثقافة الواجب داخل الاسرة، كواجب الأمومة والبنوة ، وبرزت في المقابل مسألة الحقوق التي اتخذت صورًا عدة؛ ابتداء بالتكثير منها عوض أن تكون حقًّا واحدًا، وتأبيدها حتى وإن جاءت في سياق خاص إلى درجة التضارب، كحق المثليين أو الغلو في طلبها، كحق السفاح الذي يوازي حق النكاح؛ والحال أن سر كل هذا الانقلاب عند عبد الرحمان طه هو غياب الشاهد/النموذج الأمثل لهذه القيم. فبدلاً من الفطرة الدينية، تم الاستناد إلى حالة الطبيعة كحالة حقوق في توجيه السلوك أو الطبيعة الإنسانية كخصائص موضوعية يتميز بها الإنسان، والحال أن الشاهد الأمثل لالتزام القيم هو الفطرة حيث الواجبات المعنوية والمعاني المثالية،" فالفطرة هي عبارة عن مجموعة القيم التي يحملها الإنسان في نفسه خَلقًا والتي تحدد كيف ينبغي أن يكون خُلُقا. ولذلك سيظهر لا محالة في وقت ما من يطالب بان تعاد نظرة القانون الى الحقوق الجديدة، بإملاءات وضغط خارجي وتسويق لجمعيات نسوية تمارس الكي البارد على جسم الاسرة المغربية . كما ان الخطاب البعيد عن العقلانية يجعل من الاسرة المغربية تعيش حالة من الفوضى ، لان في غياب ثقافة الواجب والتربية على الالتزام تصبح المطالبة بالحقوق شذوذ اسري ومجتمعي، لأن الغلو في الحقوق التي أصبحت مشتتة ، يجعل عوض التفكير في الزواج نفكر في العلاقات الرضائية ، وعوض التفكير في مؤسسة الابوة والأمومة ،نفكر في المرافق او الموجه الاجتماعي ،فتندحر الاسرة ،وتغيب أدوارها الاجتماعية والتربوية . ان تشخيص الحالة الأخلاقية للأسرة المغربية يحتاج الى جرأة المفكر وتتبث العالم الاجتماعي لفهم هذا التحول الذي جعل من الاسرة وحدة تميل الى النزعة الفردية، حيث بتقنين الاسرة أضحت العديد من الضوابط تتغدى بروح القانون الذي ما هو الا الوجه الاكمل للعلمانية ،وأصبح أفراد الأسرة أشخاصًا معنويين بالمنطق القانوني، وغدت الواجبات الأسرية موضوعًا للتفاوض عوض أن تكون موضوع امتثال لها بوصفها التزامات دينية. فمع تمدد لغة القانون بين مفاصل الأسرة وغياب التوسط الفعلي بأفول لغة الواجبات لحساب لغة الحقوق، حدث شرخ بين منطق حاجات الأفراد ومنطق حياة الأسر، تجسد من خلال تنامي الفجوة بين التنشئة الأسرية والواقع المعاش، وزُرع التوتر بين ما هو كائن (حيث الاستطراد الأخلاقي وصوت الواجبات) وما ينبغي أن يكون (حيث القانون والحقوق الممكنة)، حتى بدت العلاقات الأسرية كأنها مصطنعة. في التقويم الأخلاقي للأسرة المغربية ان التعويل على المقاربة القانونية هو بداية الهدم ،أي اننا بتغيير قانون الأحوال الشخصية بقانون الاسرة ،رغم ان العديد من المثل التي تنظم الاسرة ، منها القوانين المدنية والجنائية وكذا الأعراف الاجتماعية والاقتصادية وحتى تمثلات الناس للأسرة في حد ذاتها ، تشكل بنية للتحليل وحتى التراث المغربي بتنوعه يمكن ان يشكل عامل قوة ونمو للأسرة المغربية ، فعملية التقييم التي قمنا بها سابقا تقتضي منا نحن المشتغلون والباحثون في مجال الاسرة ان نعي ان اخطر ما يهدد الاسرة المغربية هو القانون في حد ذاته ،ونميل لما قاله بورديو في أن القانون المدني يسير في اتجاه تفكيك الأسرة، وقد طرح مجموعة من المشاكل على أهل بيارن Béarnais—قرية في جنوبفرنسا—الذين عانوا الأمَرَّين للحفاظ على الأسرة القائمة على حق الابن البكر في الميراث، في الوقت الذي فرض عليهم القانون القسمة بالتساوي، مضطرين إلى اختراع كل أشكال الحيل للالتفاف على القانون بقصد الحفاظ على ديمومة المنزل ضد قوى الاختراق التي أدخلها عليهم القانون . كما ان العديد من مطالب الحركة النسوية سواء كانت إسلامية أو علمانية او أي اتجاه اخر، تهدف الى تقويض الاسرة دون الشعور بذلك في لحظة التسابق الفكري والأيديولوجي والسياسي، نحتاج الى اليقظة وحضور الضمير في النضال النسائي بالأساس. لأنه استطعنا ان نقدم انموذجا غربيا لكنه بدون هوية وبدون مرجعية فكلا الخطابين وقعا في المحاكاة وفي التقليد ، دون القدرة على التطور والتطوير ،وهذا راجع لغياب تقييم عام للأسرة المغربية وفهم تحولاتها ،بل ان انشطتنا وافكارنا ماهي الا انعكاس لتمثلنا لقضية الاسرة والمرأة والطفل في مجتمع يعيش عزلة اجتماعية وحقوقية بامتياز . لذلك ستنعدم ثقافة الواجب في زمن الازمات، وستنعدم اخلاق الجماعة بسمو اخلاق الفرد ، والذي من شانه ان يكرس الخوف من بناء اسرة سواء كانت نووية او ممتدة بما يضمن تماسكا لها امام هول وتحديات العولمة والحداثة ،والتي أضحت واقعا نعيش فيه ،وهي الان تبلع الجميع بمغرياتها وفنونها الممزوجة بشهوة اللعب والتشيئ والتسليع للأفراد وتنميط بقوالب تخدم الإمبريالية التي ستتمدد فينا وفي افكارنا . فالمدخل الأخلاقي في ضمان استمراراية الاسرة هو الذي نرجوه ، ولا نرجو من خطاب يعلو عن خطاب اخلاق الجماعة التي هي استمرارية للنسق القيمي والحضاري للامة بما يحملها من قيود وهي انعكاس للشخصية الأخلاقية التي ما فتئ يتحدث عنها الحبابي في اطروحاته التي بقيت خالدة بالمغرب . واميل الى الحلول الأخلاقية التي اقترحها طه عبد الرحمان لمواجهة الآفات الأخلاقية للعولمة في: مبدأ ابتغاء الفضل، وهذا يفترض عنصرين: الأول تكامل الاقتصاد مع المقومات الأخرى، ثانيًا الاتصال بالأفق الروحي، تم مبدأ الاعتبار والذي يفترض هو الآخر أولاً مسلمتين: النظر في الأسباب الحكمية عوض العلل السببية، ثانيًا النظر في المآل عوض التركيز على الحال، وأخيرًا مبدأ التعارف الذي يقتضي عنصرين: أسبقية التعارف على الاتصال لكون الأول مسألة أخلاقية محمودة، والثانية أن التعارف يقتضي علاقة أخلاقية من احترام وتسامح، وهو لب الاعتراف. وربما من فضل الامة ان النمط السياسي المغرب يعتمد على عقد البيعة التي هي المدلول الأخلاقي للسلطة التدبيرية والتي هي حق الجماعة ،ولذلك حينما نشأ الخلاف ،تم التحكيم الذي هو سلوك اخلاقي بدل سلوك مسطرة التقنين قبل التحكيم ،لأن وضع الأراء في عهدة الأمير هو تدبير للاختلاف حتى لا يصبح مثار الفوضى وعرضة للاستخفاف بتمثلاث المجتمع لنظم أساسية ، وهي الاسرة باعتباره انموذج حي لاستمرارية اخلاق الجماعة،و باتساق مع اخلاق الفرد ، ولذلك تم خلق انسجام أخلاقي بين الفيمنست الإسلامي والعلماني الحداثي من جهة ثانية ، بما يضمن توازنا واعتدالا في الرأي ورجاحة في العقل الجمعي للنسائية المغربية بصفة عامة . وكما يقول طه عبد الرحمان —أن السلطة التدبيرية هي حقُّ الجماعة، وأن الفعل الأخلاقي مسألة مثابرة واصطفاء لا يظفر بمقام التسديد فيه إلا من تخلصت أنفسهم من أدران وحظوظ الشهوات ماديًّا ومعنويًّا؛ حتى صارت بصيرتهم أقدر على استقبال آثار الوحي تمثلاً وتأسيًا وصحبة، وتلك هي القلة الفاضلة التي تتكفل بإخراج الصورة الفطرية وتقريبها للناس عبر صور حية للتخلق يتم تجسيدها في حياتهم، ولكن الإشكال يبدأ حينما تتحول الأخلاق إلى قواعد على شاكلة المقولات الآمرية عند كانط؛ إذ تُحرَم من قوتها الاجتماعية التي تَتَحَصّن بالعلاقات الاستطرادية بين الناس، والتي تمنعها من أن تُنسَج في منطقة الفراغ عوض المشترك الجماعي، لتصبح عُرضة للتحكم والتلبس من طرف المدعين، فمن ذا الذي يمنع أناسًا من أن يدّعوا حق الأهلية في تدبير شؤون الناس؛ بمقتضى أخلاقهم التزكوية التي حصلوها بمثابرتهم واجتهادهم، وهو الأمر نفسه الذي الذي مارسته الدولة الحديثة في ثوبها الفكري الليبرالي، بادعاءها أولوية التوسط الذي هو جوهر العلمانية؟ وكما يميل الى ذلك الفيلسوف الشرقي الذي قام بعملية تحنيط للتمدد العلماني على الاسرة العربية بصفة عامة ، حيث وضح مقاربة الدمج الفردي او النزعة الفردية لإخراج الاسرة من دورها الأخلاقي لكي تصبح مؤسسة اقتصادية تعيش حالة من الصراع الطبقي، فأصبح التَّمحور حول الذَّات هو المركزيَّة الأساسيَّة للظهور بمظهر معيَّن يُجسِّده القوام، تحدَّث المفكِّر الكبير عبد الوهاب المسيري -رحمه الله- عن "علمنة الجسد"، وكيف حوَّل المرأة في الوطن العربي من كونها زوجة أو أمًّا إلى "أنثى"، أي تمركزت حول ذاتها، وتحوَّل مفهوم الأسرة من الكينونة الواحدة إلى كينونة الأفراد، حيث يريد كل فرد فيها أن يشبع رغباته المنفردة. واكتسب الشكل الخارجي القيمة المرجعيَّة لدى النساء، فمثلا تعدَّدت نظم الغذاء (الرِّيجيم) من كاراطاي للكيتو لل ppd للقيمات وغيرها؛وللوصول بالجسد إلى الشكل المثالي، ضمن أُطر المرجعيَّة المجتمعيَّة، والتي لا تتناسب إطلاقًا مع طبيعة جسد الأم المترهِّل والنَّاتئ في جوانبه، فأعيد تعريف الجسد الإنساني بشكل يُلائم الوظائف الماديَّة، ولا يُلائم الوظائف الإنسانيَّة، لأن المقاييس هنا مقاييس آليَّة، هندسيَّة وظيفيَّة، فخلق المجتمع عالم مضبوط معمليًّا يجعل الإنسان ينفر من كل ما هو إنساني، ومفهوم الإنساني هنا؛ هو ما لم يتدخَّل فيه عمليَّات التَّغيير والإزالة والتَّحويل. ولذلك تمركز هذا التَّنميط في عقل الرجل أيضًا، إمَّا بالوصول بجسده إلى فتولة العضلات، وإمَّا بالنَّظرة الآملة إلى زوجته لتصبح كالممثِّلات الفاتنات والمشاهير، فقد نحَّى النَّظرة الإنسانيَّة لكونها أمًّا، وقد تغيَّرت ملامحها وتبدَّل جسدها؛ كنتيجة حتميَّة للولادة والرِّضاعة، وطبيعة الحياة مع الأطفال، فتصدَّع الصِّراع الداخلي داخل كلِّ فرد من أفراد الأسرة، بين رجلِ ينفر من مظهر زوجته، وزوجة تأمل في مظهر "الفاشونيستا" ولا تحترم معطيات الظروف، وبين هذا وذاك مجتمع يفترض افتراضاته. وكما ندري أنَّ نصف حل المشكلة هو إدراكها، فهذه محاولة لإدراك مآلات الوضع الإنساني بين المرأة وعلمنة الجسد، وبين معطيات الصورة المرئيَّة والحقيقة الكامنة فيها، والتي سنسعى من خلال المقالة المقبلة ان نفصل فيها هذا الامر بشيء من التفصيل والتدقيق.