ترامب يهدد بمحاولة استعادة قناة بنما    هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



طه عبد الرحمن بين التأمل الفلسفي والتكهن السياسي
نشر في اليوم 24 يوم 10 - 12 - 2018

على غير عادته يخصص طه عبدالرحمن كتابا كاملا للتطرق إلى قضايا آنية ومستعجلة، متخليا عن منهجيته المعتادة القائمة على أساس ترك مسافة زمنية تمر على الأحداث المستجدة، تتيح له إمكانية التفكر فيها “على مقتضى التأمل الفلسفي المبني على القيم، لا على مقتضى التكهن السياسي المبني على المصالح“، مبررا اختياره بأن الأزمة الوجودية التي تعيشها الأمة العربية والإسلامية، توجب تعجيل النظر الفلسفي في أحوالها، وتقديمه على كل تحليل سواه، فهو الكفيل وحده بإنقاذ الأمة الإسلامية، وجميع الأمم الإنسانية من المخاطر المُحدقة بها اليوم.
يستعمل طه مفهوم “الأمة” بكيفية مزدوجة، فهو يحيل تارة إلى العرب باعتبارهم أمة واحدة، ويقصد به تارة أخرى المسلمين جميعا، عربا وعجما. معتقدا أن هؤلاء وأولئك يواجهون اليوم ثلاثة تحديات كبرى وهي: “تحدي التفريط في القدس“، و“تصارع الحكام المسلمين على النفوذ” و“اقتتال العرب فيما بينهم“، وكما في كل قضية يتناولها، يعتبر طه أن مقاربته هذه غير مسبوقة وغير مألوفة، فهو أول مفكر عربي يطرق باب هذه القضايا من زاوية فلسفية محضة، بينما تناولها غيره من المفكرين العرب، السابقين والحاليين، من زوايا أخرى مغايرة، تاريخية أو سياسية أو اجتماعية… إلخ (ص 11).
إن ما يجمع بين المقاربات غير “الطهوية” هو أنها مجتمعة، في نظر مؤلف “ثغور المرابطة“، مقاربات غير فلسفية، في الوقت الذي يعتبر فيه أن مقاربته، هي الأولى من نوعها التي تتناول أمهات التحديات العربية–الإسلامية الراهنة، تناولا فلسفيا يتجاوز الطرائق والمناهج التي اعتمدها كل المفكرين العرب، والتي تشوبها شوائب من قبيل “الاستغلاق على الفهم“، و“ركاكة الأساليب“، و“القصور في استيعاب الآليات المستوردة“، أو “المستهلكة” بلغة طه، فضلا عن غياب “الحس النقدي” على هذه الأعمال مجتمعة.
ينظر طه إلى هذه التحديات، إذن، وكما يقول، من زاوية فلسفية، تقوم على نظريته “الائتمانية“، التي تنظر إلى الصراعات الناتجة عن مواجهة العرب والمسلمين للتحديات الثلاثة السالفة الذكر، أنها ذات جوهر ديني، وهي، من حيث كونها، كذلك، لا تخص العرب فقط، بل تخص المسلمين جميعا، وهو هنا لا يستعمل وصفة “الإسلام” للدلالة على دين معين، بل يستعملها بما يعتبره معنى واسعَ الدلالة، وهو “إسلام الوجه لله” بحيث يشمل، حسب طه عبدالرحمن، “أي فرد مؤمن، أيا كان دينه“. (ص 13) لكن طه لا يكتفي باعتبار أن هذه الصراعات تخص كل المؤمنين، بل هي معركة كل “أحرار العالم“، وما ذلك إلا لأن الأحرار، بحسب منظوره “الائتماني“، لا يمكنهم إلا أن يكونوا مؤمنين إيمانا بلا حدود ملية أو طائفية.
لنفصل القول في كل هذه التحديات الثلاثة واحدة بعد الأخرى، كما تناولها طه عبدالرحمن، متبعين منهجية تعتمد الوصف والتحليل والنقد، مراعين الترتيب نفسه الذي اتبعه طه في مقاربته، مبتدئين أولا، بتحدي الصراع العربي– الصهيوني، وثانيا، تحدي الصراع الإسلامي – الإسلامي، وثالثا، وأخيرا، بتحدي الصراع العربي– العربي.
«المرابطة المقدسية» والدواء الشافي والكافي لداء العدوان الصهيوني
لا يتردد طه عبدالرحمن في النظر إلى مقاربته الائتمانية، باعتبارها المقاربة الوحيدة التي تملك مفاتيح حلول كل المشكلات والتحديات المعاصرة للأمة الإسلامية والعربية، بل وللإنسانية، وفي مقدمتها التحديات التي تفرضها القضية الفلسطينية.
هكذا لا يبخل علينا مؤلف “ثغور المرابطة” بالترياق، الذي يعتقد يقينا أنه الشافي والكافي، لرد كل أشكال العدوان الصهيوني على الأرض والإنسان في فلسطين السليبة، وقد اختار له من الأسماء اسم “المرابطة المقدسية“.
إن هذه “المرابطة” هي الدواء المناسب لداء الاغتصاب الصهيوني لإنسان وأرض فلسطين، استخلصه طه بعدما تبين حقيقة معاناة الإنسان الفلسطيني “في هذا العالم الذي فقد خلق الحياء، بحيث بات كل قوي فيه يصنع ما يشاء“. (ص 19)
ومن أجل أن يحدد حقيقة هذه المعاناة، لا بد من تحديد ماهية هذا الإنسان الفلسطيني الذي يتجرع ألوانا مختلفة من المعاناة، أو بتعبير طه أشكالا مختلفة من الأذى، يلاقيها من كل جانب،
من الأقارب والأباعد، فضلا عن الأذى الإسرائيلي الذي هو الشر المطلق.
ينظر طه إلى الإنسان الفلسطيني باعتباره ذا خصوصية ليست لسواه من بني الإنسان، لا تفيد في معرفة حقيقتها كل المقاربات التي اعتمدها المثقفون العرب المعاصرون في التعاطي مع معه ومع قضيته المركزية: اغتصاب الأرض والإنسان.
هكذا لم تُجدِ المقاربة التاريخية نفعا في معرفة حقيقة الإنسان الفلسطيني،
ولا المقاربة القانونية لأنها تسقط عالمه الغيبي؛ كما لم تفدنا المقاربة السياسية في شيء، مادامت قد أسقطت كلا من بعده السرمدي وعالمه الغيبي.
وعلى الرغم من أن المقاربة السياسية، في نظر طه، أبعد المقاربات وصولا إلى معرفة حقيقة الإنسان الفلسطيني، فإنه يلاحظ أنها هي الاختيار المنهجي الطاغي عند المثقفين العرب المعاصرين، في تناول القضية الفلسطينية، مما جعله لا يتردد في نقدها نقدا لاذعا، لا يخلو من أمثلة قدحية: فمثلها كمثل “من يبتغي أن يزن الجبل بميزان الذهب“، أو كمثل “من يبتغي أن يولج الجمل في سم الخياط“. (ص 19)
وإذا كان من المشروع أن نسأل فيلسوفنا السؤال التالي: هل يتعلق الأمر بمقاربة سياسية واحدة أم بمقاربات سياسية مختلفة ومتناقضة للقضية الفلسطينية؟ فإنه يمكننا ترجيح الظن أنه لم يلق بالاً للفروقات والاختلافات الملاحظة بين هذه المقاربات، مركزا على الخاصية المنهجية التي تجمعها وهي كونها، على تعددها وتباينها وتناقضها، ذات طبيعة منهجية سياسية.
وإذا كان طغيان هذه المقاربات، وفي مقدمتها المقاربة السياسية، يجعلنا بعيدين عن إدراك حقيقة الإنسان الفلسطيني ودفع أذيته، فإن البديل الذي يقترحه طه، هو مجاوزة هذه المقاربات، واعتماد مقاربة بديلة، قادرة أن تخلص الإنسان الفلسطيني من ورطته، وهي، “المقاربة الائتمانية“، التي، تتميز عن المقاربات السالفة الذكر، بكونها “تصل عالم الشهادة وبعالم الغيب“، و“تربط الزمني بالسرمدي“.
تقوم هذه المقاربة على مبدأ مركزي يقتضي أن لكل شيء بعدين اثنين: جوهر وصورة، وأن الروح جوهر الصورة، والصورة تعبير عن الروح أو مظهرها الخارجي؛ بحيث تتمثل صورة الإيذاء الإسرائيلي للفلسطيني في بعدين اثنين: إيذاء الأرض المباركة وإيذاء الإرث الفطري، أما روح هذا الإيذاء فتتمثل، أيضا، في بعدين اثنين: إيذاء الإله وإيذاء الإنسان.
الكيان الصهيوني “إحلال” و“حلول“!
يتجلى إيذاء الإله في منازعته إحدى صفاته وهي صفة المالك، حيث يسعى الإسرائيليون إلى أن يكونوا مالكين، متفننين في شتى أساليب احتلال الأرض، ومبتكرين أساليب وطرائق على درجة كبيرة من الخبث والظلم والطغيان، فيما يكون الفلسطينيون مملوكين، الأمر الذي دفع طه إلى أن
يُطلق على هذا الاحتلال نعت “الإحلال”
لأنه ليس كأي احتلال. وتعريفه الائتماني يتمثل في كون هذا الاحتلال للأرض
هو منازعة للمالكية الإلهية.
وإذا كان طه يسمي احتلال الأرض الفلسطينية بالإحلال، فإنه يسمي احتلال فطرة الإنسان الفلسطيني، التي يصنع بها تاريخه، وذاكرته التي يحفظ بها هويته ب“الحلول“، الذي هو “احتلال الفطرة المؤصلة، جلبا للقبول بتدنيس الأرض المقدسة“. وهو، أي هذا “الحلول“، ينقسم إلى قسمين: أولهما جزئي وهو “قلب القيم“، وثانيهما كلي وهو “سلب الفطرة“. (ص 24)
ينتج عن قلب القيم هذا إفسادات ثلاثة: إفساد ذاكرة الفلسطيني، وإفساد ثقته بنفسه، وإفساد لتوجهه الخاص؛ لينتج عن هذه الإفسادات مجتمعة إخلال لعلاقة الفلسطيني بالزمان، ماضيه وحاضره ومستقبله، وإتلاف علاقته بالمكان، أي علاقته بأرضه؛ بالإضافة إلى سلب هذا الإنسان فطرته، من خلال أشكال التطبيع المختلفة مع الكيان الصهيوني، الذي يفضل طه تسميته بالحلول الكلي. (ص 27 و28)
و“الحلول الكلي“، هو تضييع كلي للإنسان الفلسطيني، شكلا ومعنى، صورة وروحا، بحيث يصبح الفلسطيني مرتبطا بالكيان الإسرائيلي بما يجعل وجوده في فلسطين وجودا مشروعا، لأن المطبع يفضل موت روحه على موت بدنه، ويستبدل الإرادة الدنيا (= الإرادة الإسرائيلية) بفطرته التي هي أعلى، ويستبدل فاسد الأوهام بصحيح الحقائق، ويقضي على فطرته بموتين شنيعين: موت الفطرة وموت الحكمة، وتضييع قداسة الأرض المباركة، وتضييع الحياء، بما هو،
في نظر طه، نسيان كلي للنظر الإلهي، وفقدان التمييز الأخلاقي، وسلوك المسلك النفاقي. (ص27-28)
حول ماهية «المرابطة المقدسية»
لا يمكن مواجهة “الإحلال“، ويقصد به طه الاحتلال الصهيوني لفلسطين، والتصدي ل“الحلول“، أي كل أشكال التطبيع مع هذا الكيان غير الشرعي، إلا بمقاومة فريدة يسميها طه ب“المرابطة المقدسية” (ص 36)، التي وحدها الكفيلة بتحقيق مطلبين اثنين: تجديد قداسة الأرض وتجديد أصالة الفطرة.
يضع طه لهذه المقاومة التعريف التالي: “المرابطة المقدسية هي المقاومة التي تلازم ثغور الأرض المقدسة لتتصدى لتدنيسها، وتعيد إليها قداستها، وتلازم ثغور الفطرة المؤصلة لتتصدى لتزييفها وتعيد إليها أصالتها“. (ص 37)
ويتميز هذا اللون من المقاومة، بخصائصه المتفردة، التي لا توجد في غيره من أنماط المقاومة السائدة اليوم؛ وما ذلك إلا لأنها تستمد مشروعيتها الأخلاقية من الرسول محمد، الذي هو، في نظر طه، المرابط المقدسي الأول، الذي لا ينقطع رباطه إلى يوم الدين.
وانطلاقا من هذه الخاصية المركزية تأتي بقية خصائص هذه المرابطة، فهي ليست مقاومة مادية بقدر ما هي مقاومة معنوية، وهي “وثاق يجمع بين قوة جبريل، إحكاما، وسرعة البراق تأثيرا” (ص 38)، وهي، أيضا، “حالة سجودية تلازم المرابط في كل أفعاله وأوضاعه“، وهي حالة شهودية تلازم المرابط في كل أعماله“. (ص 38)
تستمد “المرابطة المقدسية” قوتها وفعاليتها، من كونها مقاومة روحية بالدرجة الأولى، وما المقاومة الجسدية سوى امتداد لها، ومنها تستمد زخمها ونجاعتها؛ بل إن المقاومة الجسدية منفصلة ومنقطعة، بينما المقاومة الروحية متصلة ودائمة، لأن أرواح المرابطين الروحيين متصلة، بينما أجسامهم منفصلة.
لا تمثل “المرابطة المقدسية“، إلا واجهة من واجهات النضال والمقاومة، ولا تسد إلا ثغرا من ثغور المرابطة التي يتعين على الأمة مواجهتها، بما يقتضيه الوضع من حزم وقوة، وتبقى هناك ثغور أخرى لا بد من التعامل معها، وتخصيص كل واحد منها بالمرابطة المناسبة له.
الثورة الأخلاقية والحل الائتماني للصراع «السني»- «الشيعي»
لا شك أن من أبرز التحديات التي تواجه المسلمين اليوم، بعد التحدي الصهيوني، ما يعيشونه من صراعات وحروب وفتن داخلية، تضعف قدرتهم، وتشتت وحدتهم، وتجعلهم عاجزين عن مواجهة أعداء الأمة الخارجيين؛ لذلك سيخصص طه قولا مطولا لمقاربة قضية الصراع على النفوذ في العالم الإسلامي، بين “الشيعة” و“السنة“، ممثلا في الصراع بين النظامين السعودي والإيراني.
يعتمد النظام السعودي في بسط نفوذه على الساحة الإسلامية، وسيلتين اثنتين: الإيديولوجية الوهابية (أو الفكرانية الوهابية بتعبير طه)، والثروة النفطية، في الوقت الذي يعتمد فيه النظام الإيراني على الإيديولوجية الخمينية والثورة الإسلامية.
يقف طه عند وسائل هذا الصراع وأضرارها على الأمة الإسلامية، مفندا ادعاءات النظامين بقيام كل منهما على حماية المسلمين
وبناء وحدتهم؛ فادعاء النظام السعودي خدمة قبلة المسلمين ادعاء كاذب، في نظر
طه، من وجهين اثنين:
أولهما، أنه “لو كان النظام السعودي يروم حماية هذه القبلة، لا حماية نفسه، لما وجد في العدو التاريخي لمجموع الأمة، أي الكيان الصهيوني، حليفا يضاهيه في القضاء على نظام ينتمي إلى هذه الأمة نفسها“. (ص 69)
وثانيهما، أن الهم “الشاغل للنظام السعودي هو الوصول إلى هدفين اثنين: أن يتفرد بهذا النفوذ الإسلامي، محرما على غيره ما بات يبيحه لنفسه، على الرغم من
أنه لا يملك من مصادر القوة إلا المال؛ والثاني أن يمنع قيام أي نظام عادل
في محيطه، إسلاميا كان أو عربيا، نظام يمكن أن يبعث في شعوب الأمة الأمل بأن ترى أنظمتها تنتهج نهجه“. (ص 69)
وعلى خلاف، ما يدعي النظام السعودي، فإن وسائله في بسط هيمنته وفرض نفوذه على العالم الإسلامي، لم تزد الأمة إلا ضعفا وفرقة، فإيديولوجيته الوهابية التي استغل ثروته النفطية في فرضها
على الشعوب الإسلامية، من دون أدنى احترام لخصوصياتها التدينية، صحّرت الفكر وزعزعت المعتقدات.
وإذا أضفنا إلى ذلك تبديده الجنوني لثروته المادية بلا طائل وقفنا، حسب طه، عند المرض المزمن الذي يعاني منه هذا النظام، وهو “الاختلال في الوجهة“، فأصبح يفسد من حيث يريد أن يصلح، ويفكك الأمة من حيث يريد توحيدها، ويضعف نفوذه من حيث يريد تقويته.
أما النظام الإيراني، الذي يعتمد في بسط نفوذه على الإيديولوجية الخمينية والثورة الإسلامية، فقد خول لنفسه حق التدخل في معتقدات الشعوب، وفرض رؤيته الطائفية عليها، مشكلا بذلك تهديدا لتعدديتها وتنوعها، مما أصابه بداء “الاغترار بالقوة“.
هكذا يلاحظ طه عبدالرحمن أن الصراع بين النظامين تدرج من صراع سياسي إلى صراع ديني وطائفي، ثم انتقل إلى صراع عرقي وقومي، يراهن على الصراع الطائفي، بين أهل السنة العرب والشيعة الفرس، ويعتمد أسلوب إحياء صراعات وأحقاد وجراحات ماضي الصراع السني الشيعي.
إن كلا منهما، لا يطلب “استرجاع الصراع الطائفي، على مقتضى حقيقته السياسية التاريخية، مع ما انطوت عليه من المآسي، وإنما على مقتضى قدرته على إخراج الجمهور من فضيلة الاستواء إلى آفة الانقلاب؛ فالنظام السعودي يسعى إلى أن تنقلب مقاصد الجمهور بعد استوائها، حتى تنكسر غيرته على حفظ الحرمات؛ والنظام الإيراني يسعى إلى أن تنقلب وسائل الجمهور بعد استوائها، حتى تبالغ همته في التعلق بالمقدسات“. (ص 80)
لقد قام طه عبدالرحمن بالعودة إلى تاريخ هذا الصراع وأعاد قراءتها وفق مقتضيات نظريته الخاصة، التي يدعوها ب“النظرية الائتمانية“، قراءة لم يكن الهدف منها إعادة بسط التفاصيل التاريخية المعروفة لأطوار هذا الصراع، وإنما المقصد منها الوقف على “المنطق الائتماني الأخلاقي الذي تحكم في تقلبها، وأن نتبين أين النظامان السعودي والإيراني من هذا المنطق“. (ص 82)
ولاشك أن خلاصة هذه “القراءة الائتمانية” ستكون صادمة لأنصار النظامين، إذ إن كلا منهما كاذبان ومضللان، حينما يدعي كل واحد منهما أنه يخوض صراعه من أجل الدين، أو دفاعا عن الشيعة أو نصرة للسنة، إذ لا أحد منهما يمثل كل الشيعة أو كل السنة، فضلا عن كونه صراعا لا علاقة له بالدين الإسلامي وبمبادئه وقيمه، وإنما صراع هيمنة ونفوذ وتسلط واستبداد.
وإذا كان النظام السعودي قد اعتمد في الشرعنة لنفسه على فقهاء ابتعدوا عن السياسة، “لا عن تخيير، ولا بقصد التفرغ لتزكية النفس، وإنما عن تحييد وبقصد التفرغ لتزكية النظام” (ص 82)، فإنه ليس غريبا أن يسقط هؤلاء الفقهاء العمل بمبدأين إسلاميين كبيرين وهما: مبدأ الولاء والبراء، ومبدأ أخوة المؤمنين.
أما النظام الإيراني، فقد اعتمد في شرعنة وجوده بفقهاء متسيسين، يعطون الأولوية للتدبير السياسي على باقي الأعمال الشرعية، سواء أكانت عبادات أو معاملات، الأمر الذي خول للولي الفقيه سلطة سياسية مطلقة، لا تحدها حدود، ولا تقيدها قيود.
وإذا كان النظامان معا يسبّبان الأذى للأمة الإسلامية، النظام السعودي باختلال وجهته، والنظام الإيراني باغتراره بقوته، فإن طه، يستطرد، في سياق تحليله، أن النظام الإماراتي “اجتمع فيه من الآفات ما تفرق في النظامين: السعودي والإيراني، وهما الاغترار بالقدرة، مفضيا إلى انقلاب الوسائل؛ والاختلال في الوجهة، مفضيا إلى انقلاب المقاصد“. (ص 105)
فإذا كان اغترار النظام الإيراني “يرجع إلى تبنيه المركزية الشيعية في العقيدة والثورة“، فإن طه عبدالرحمن يرى أن اغترار النظام الإماراتي أشد سوءا وضررا منه، لأنه “يرجع إلى تبنيه السياسة الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة العربية، متوليا تنفيذ بعض مخططاتها“. (ص 105)
كما أن “اختلال وجهة النظام الإماراتي أسوأ من اختلال وجهة النظام السعودي؛ إذ إن اختلال الوجهة في النظام السعودي مرده إلى وجود موالاته لأعدى أعداء الأمة، في حين أن اختلال الوجهة لدى النظام الإماراتي مرده إلى توليه هذه الموالاة، فتحا لبابها وتوسطا فيها وحملا للدول العربية والمسلمة الأخرى عليها، إن إغراء أو إرغاما” (ص 195).
الحل الائتماني للصراع والثورة الأخلاقية
يقترح طه حلا لهذا الصراع الإسلامي– الإسلامي يسميه ب“الحل الائتماني، الذي يتطلب حصول ثورة أخلاقية في النظامين السعودي والإيراني؛ فالنظام السعودي يحتاج، أساسا، إلى تخليق الفقه، والنظام الإيراني يحتاج، أساسا، إلى تخليق السياسة. (ص 121)
إن هذا “التخليق الائتماني” ليس ضربا من الطوبى والخيال، الذي لا يمكن أن نجد له سبيلا للتفعيل على مستوى الواقع الملموس، بل إنه في نظر طه، عبارة عن واقعة تاريخية تجسدت أول ما تجسدت، في عهد نبي الإسلام محمد في جزيرة العرب. (ص 124)
تروم الثورة الأخلاقية إلى بناء “وحدة ائتمانية” يتحد فيها الديني بالسياسي، كما اتحد في ما يعتبرها طه “الوحدة الائتمانية الأصلية“، التي أنشأها النبي في المدينة، وهي وحدة لا هي بالسياسة، كما هو الأمر عند الدنيانيين (= أي العلمانيون)، ولا دينية، كما هو الحال عند الدنيانيين (=أي الإسلاميون)، وإنما هي وحدة تجمع بين ما تفرق عند الاتجاهين معا، فهي “تصل بين الاحتفاظ الذي يميز أمانة المستودعية والاختيار الذي يميز أمانة المسؤولية“. (ص 125)
لقد تعرضت هذه “الوحدة الائتمانية الأصلية، إلى “الابتلاء” بعد وفاة النبي مباشرة، حيث يعتبر طه هذا “الابتلاء” بمثابة قانون إلهي، وفق تحليله الائتماني، الذي استخلص منه، ما اعتبرهما “حقيقتين اثنتين“، أولاهما، أن “الفرقة التي سوف يتعرض لها المسلمون هي أثر من آثار العداء الأصلي الذي وقع على الإنسان منذ أول وجوده، وذلك ابتلاء لهم“؛ والثانية، هي أن “السياسة تدبير للعداء، فلا توجد إلا حيث يوجد العداء، إن واقعا أو احتمالا؛ فالابتلاء، بحسب المنظور الائتماني، إنما هو المحك الذي تختبر به الإرادة في التصدي للعداوة الأصلية التي تبث العداء حيث الولاء والفرقة حيث الوحدة“. (ص 128)
وإذا كان الصراع السعودي الإيراني هو تجسيد معاصر لهذا الابتلاء الذي اتخذ له في كل زمن من أزمنة التاريخ الإسلامي صورة مختلفة، فإن طه حاول تتبع صورها قارئا لها وفق رؤيته الخاصة، فإن السؤال المطروح هو كيف نواجه ويلات هذه الفرقة اليوم؟ وكيف تبني الأمة وحدتها مستقبلا؟
ينطلق طه دائما من نموذجيه المفضلين: النظامان السعودي والإيراني، فالأول في حاجة إلى “فقيه تعرفي“، يحرره من تبعيته للآخر وما يرتبط بها من فقدانه الثقة
في ذاته، والثاني يحتاج إلى “سياسي تقربي“، يحرره من تبعيته لذاته، وما يرتبط بها من إفراط اغتراره بقوته.
النظام السعودي وحاجته إلى «فقيه تعرفي»
ستقوم الثورة الأخلاقية، إذن، بواسطة عنصرين فاعلين، هما: “فقيه تعرفي” و“سياسي تقربي“، يأخذان بمبدأ المؤانسة عوض مبدأ المواطنة، بحيث يتجاوزان الحدود الجغرافية والحدود الطائفية؛ ف“المرابط المؤانس“، فقيها كان أو سياسيا، يسعى إلى دفع الضرر على الإنسان، من حيث هو إنسان، وليس من حيث هو مطايف، أو مواطن في هذا النظام أو ذاك. (ص 170)
إن النظام السعودي في حاجة إلى من يخرجه من حالة من التعبد للآخر إلى حالة التعرف إلى رب الآخر، ولا يتأتى ذلك إلا ل“فقيه تعرفي“، صاحب منظور سياسي مستقل؛ لا يخضع لتوجيهات النظام ولا يلجأ إلى تعليمات الآخر، ويصدر في مختلف اجتهاداته من المرجعية الإسلامية، التي تصل بين الديني والسياسي، بحيث يتمكن من تخليص النظام السعودي من “الفقه التقنني“، الذي يرد الأوامر الإلهية إلى إكراهات لا إلى خيارات، مما يحول بين النظام السعودي والوصل بين الديني والسياسي بمعناه الائتماني. (ص 175)
إن طبيعة نشأة “الفقه التقنني“، في صورته الوهابية، التي قامت على أساس واقعة تاريخية، وهي اقتسام النفوذ بين جماعة محمد عبدالوهاب وآل سعود، بحيث تولى الوهابيون الشأن الديني وتكلف آل سعود بالشأن السياسي، جعلته متقبلا لروح الفصل بين الديني والسياسي. (ص 176)
وحده “الفقيه التعرفي” القادر على إخراج النظام السعودي من ويلات “الفقه التقنني“، باعتماده على مبدأين ائتمانيين اثنين، يهديانه إلى سبيل الخروج من تعبد الآخر؛ أولهما: مبدأ تقديم “اعتبار معبودية الإله على اعتبار مأمورية الإنسان“، الذي يعطي الأولوية لمعرفة المعبود على عبادته حتى يعبد عن علم، وهذا يؤدي إلى التخلص من التبعية للبشر بعبادة رب البشر، وثانيهما، مبدأ تقديم “اعتبار ائتمانية القيم على اعتبار إجبارية الأوامر“، الذي يقدم القيم الأخلاقية التي تتضمنها الأوامر الإلهية على ظاهر الأوامر الإلهية، (ص 177) وهذا، يؤدي بدوره، إلى التحرر من التبعية للآخر بفضل ما تمنحه هذه القيم من طاقة وقوة روحيتين. (ص 178)
سيستغني النظام السعودي، في حال اهتدائه بفقيه تعرفي، على الحاجة إلى قمع المجتمع، لأن سياساته لن تبقى تُباعد بينه وبين مجتمعه، لأنه سينبذ وراء ظهره سياسات التبعية للآخر، التي توسع الهوة بينه وبين مجتمعه، وبخروجه من ورطة تعبده للآخر سيكف عن استعباد أبناء شعبه، فيستعيد إنسانيته بإعادة الإنسانية لهم. (ص 178)
النظام الإيراني وحاجته إلى «سياسي تقربي»
إذا كان “الفقيه التعرفي” هو الذي سينقد النظام السعودي من ورطة “انقلاب الوجهة” و“التعبد للآخر“، فإن النظام الإيراني في أمس الحاجة اليوم، إلى “سياسي تقربي” يخرجه من آفة “اغتراره بذاته” و“تعبده لذاته“.
سيحدث السياسي التقربي نقلة نوعية في النظام الإيراني تجعله يتجاوز علتين متكاملتين، أولاهما علة تسييس الدين، وتوظيفه توظيفا سياسيا، بحيث يزن فقهاؤه المتسيسون كل الأمور الدينية بميزان السياسة، لأن الولاية عندهم مقدمة على العبادة، كما تم ذكر ذلك سابقا؛ والثانية، إطلاقية السلطة واستبداديتها، من خلال اعتبارها سلطة الولي الفقيه سلطة مطلقة، لا تقيدها قيود وتحددها حدود، باعتبارها نيابة عن الرسول من جهة، وعن الإمام المعصوم من جهة ثانية. (ص181-182)
إن مهمة “السياسي التقربي” تستمد قيمتها من حرصه الشديد على موقفه الديني المستقل، عن النظام والسلطة، فهو لا يرد الدين إلى السياسة ولا يطلق يد السلطة، حتى تحتكر الدين والدنيا معا؛ بل يضع قيودا أخلاقية للسياسة، كفيلة بوضع حد لآفة التعبد للذات التي سقط فيها النظام في إيران. (ص 182)
ومتى قام “السياسي التقربي” بنقل النظام الإيراني من حالة “التعلق بذاته” إلى وضعية “التعلق بربه“، سيتخلص هذا النظام من حجاب اغتراره بقوته وقدرته التي تحول بينه وبين خصومه، فيجعل الآخرين يطمئنون لوسائله، وفي مقدمتهم النظام السعودي، الذي سينفتح له باب التواصل معه، ويزداد صبره على قبول اختلافه. (ص 186)
والخلاصة التي ينتهي إليها، طه، حول الصراع الإسلامي–الإسلامي، والذي خصص له، ثلاثة فصولا متتابعة، هي حاجة الأمة إلى ثورة أخلاقية، تخرج النظام السعودي من الحالة التعبدية للآخر، وتخرج النظام الإيراني من الحالة التعبدية للذات. مما يتيح فرص اللقاء بين النظامين؛ الأمر الذي سيخلق، في نظره، “واقعا ائتمانيا” غير مسبوق، “(…) يجعل سلطان الأمة يثبت إيمانها بما يقوي إرادة الذات“، و“(…)
يجعل إيمان الأمة يؤسس سلطانها
بما يوسع أفق التعامل الأخلاقي مع غيرها من الأمم“. (ص 189)
ثغر الصراع العربي العربي والحاجة إلى «المثقف المرابط»
لقد وقفنا سابقا عند مقاربة طه عبدالرحمن للصرع مع الكيان الصهيوني، واقتراحه “المرابطة المقدسية” كبديل لمقاومة هذا الكيان المغتصب؛ كما عرجنا على مقاربته المطولة للصراع الإسلامي– الإسلامي، واقتراحه لنموذجي “الفقيه التعرفي” و“السياسي التقربي“، القادرين على القيام ب“ثورة أخلاقية” من أجل خلق “واقع ائتماني جديد“، وقد أزفت الآن لحظة النظر في مقاربته للصراع العربي العربي.
يعلن طه في البداية عن الواقع المؤلم الذي يعيشه العرب في عبارة صريحة وواضحة، وهي أن “ثقافة القتل عمّت بلاد العرب” (ص 197)، فمنذ ثلاثة عقود، أو ما يزيد، والعرب يتفنون في قتل بعضهم البعض بأشد الأسلحة فتكا، حتى إنه، والقول حرفيا لطه “لا أمة بلغت في هذه الفترة مبلغهم، تفننا في قتل أنفسهم“. (ص 196)
يسمي طه هذا الاقتتال ب“الفتنة القابيلية” (نسبة إلى قابيل)، التي أدخلت العرب فيما يسميه بعصر “ما بعد الأمانة“، نظرا لما تختص به هذه الفتنة العربية من خصوصيات في القتل والتنكيل، حيث القصد من القتل فيها ليس إتلاف القاتل لذات القتيل، وإنما إنكار “هويته الائتمانية“، وإنكار هذه الهوية شر من القتل“. (ص197)
هكذا يشبه طه قتل العربي لأخيه العربي اليوم، بقتل قابيل لأخيه هابيل، ف“كما أن قابيل قتل أخاه ليزيل عنه ما لايزال، وهو “خصوصية التقبل الإلهي“، فكذلك العرب يقتلون إخوانهم ليزيلوا عنهم ما لايزال، وهو “خصوصية الائتمان الإلهي“. (ص 197)
مسؤولية المثقف
يرى طه عبدالرحمن أن مسؤولية تجاوز هذا الواقع المأساوي، تقع على المثقفين بالدرجة الأولى، لأنهم مؤتمنون على إنسانية الإنسان، لأن الغرض من الثقافة هو “إنتاج الإنسان الذي ينهض بالعمران، ولا ينهض بالعمران إلا “الإنسان–الآية“، الذي اختار حمل الأمانة، فتكون الثقافة عبارة عن الائتمان على “الإنسان–الآية“. (ص 198)
لكن المثقفين العرب، في نظر طه، تفرقوا، فيما يخص موقفهم من هذه الفتنة إلى ملل وشيع مختلفة باختلاف الإيديولوجيات السائدة في العالم العربي، فنجد فيهم من يقف مع ثقافة القتل، ومن يقف ضدها، ومن يتخذ موقفا متذبذبا لا من هؤلاء ولا أولئك.
والمؤيدون منهم المؤيد للقتل باسم الدين، ومنهم المؤيد له باسم الدولة، أما المعارضون له فهم يفعلون ذلك عن “استحياء“، بحسب تعبير طه، فضلا عما سمّاهم ب“الصامتين“، و“المخترسين“، و“الخائفين“.. وغيرهم من أصناف المثقفين العرب التي عدها المؤلف عدًّا في هذا الفصل.
وبعد تأمل في مواقف المثقفين العرب المختلفة لم يتردد طه بوسمهم جميعا، ب“الخيانة” لدورهم الثقافي، وهي، عنده، ليست خيانة واحدة، وإنما هي ثلاث خيانات؛ أولاها، خيانة الثقافة باعتبارها “الائتمان على “الإنسان– الآية“؛ والثانية، خيانة الإنسان–الآية: حكم المثقف
الساكت عن القتل حكم المشارك فيه،
ناهيك عن المثقف المؤيد له“؛ والثالثة، خيانة الكائنات الأخرى. (ص 199)
هذه الخيانات، بما هي خيانة متعددة الأوجه للإنسان، جعلت المثقف العربي مثقفا منسلخا عن الآيات التكوينية التي تعطي للإنسان بعدا إنسانيا وعالميا، والآيات التكليفية التي تجعل الإنسان مؤتمنا على إنسانيته، وعلى الكائنات الأخرى.
والبديل الذي يقترحه طه عن هذا “المثقف المنسلخ” و“الثقافة المنسلخة“، التي ينشرها، هو “المثقف المرابط“، الذي سيقوم بتحويل جذري في الرؤية العربية إلى العالم، يجعل الإنسان العربي قادرا على مجاوزة تحديات الفتنة العربية القاتلة. (ص 200 201)
تتميز هذه “الرؤية الائتمانية” بثلاث خصائص، وهي تجاوز رتبة الالتزام إلى “الملازمة“، التي هي أعلى رتبة، في نظر طه، من الالتزام؛ ووصل السياسي بالديني؛ ووصل الديني بالإنساني.
يفضل طه “الثقافة الملازمة” على “الثقافة الملتزمة“، لأن الملازمة، هي، أولا، إلزام وليست مجرد اختيار، وثانيا، ثبات على ثغر من الثغور، بينما الالتزام هو اعتناق فكرة من الأفكار وثالثا، لأن الالتزام عمل سياسي بمعناه الاختياري، بينما الملازمة ليست كذلك، ورابعا، لأنها، أي الملازمة، “توجب مراقبة الذات بقدر ما توجب مراقبة الآخر“، وخامسا، لأنها تفتح آفاق المثقف الإدراكية بما لا يفتحها الالتزام. (ص 203 – 204)
وفيما يتعلق بخاصية “وصل السياسي بالأخلاقي“، التي تتميز بها “الثقافة المرابطة“، فمقتضاها أن “المثقف المرابط” هو من يعتقد أن “السياسة التي لا أخلاق معها خيانة” (ص 205)؛ ويؤمن بضرورة تجاوز “واقع التاريخ” إلى “واجب التاريخ“. (ص 206)، ويتحمل مسؤولية توجيه الواقع بما يجعله يحقق الكمال الإنساني؛ ويتم له، أي “المثقف المرابط” ذلك، حسب طه، بالتصدي للإرادة التسلطية المحددة لماهية السياسة“، ومواجهة تسلط الدولة وقمعها للحريات وكبتها للكفاءات. (206 و207 )
أما الخاصية الثالثة ل“الثقافة المرابطة“، وهي “وصل الديني بالإنساني“، فتتمثل في الاعتقاد الراسخ عند المثقف المرابط بأن جوهر الدين هو إنسانيته، فهو القاعدة الروحية التي تؤسس للمشترك الأخلاقي الإنساني، الذي تأخذ به الأمم جميعا. (209 و211) هكذا سيتمكن “المثقف المرابط” من التصدي لثقافة القتل، المتفشية في الواقع العربي من خلال التصدي لفاسد الأفكار، خاصة منها التي تبرر ثقافة القتل هذه، أو تروج لها، أو تشجع عليها، أو تسكت عنها، أو تدعي “الحياد“، فيما يتعلق بالفتنة الناتجة عنها. (ص 212)
لا مفر، إذن، والحالة هذه، من تصدي “المثقف المرابط” ل“لمثقفين المنسلخين، سواء أكانوا “دنيانيين” أو “ديانيين“، ووضعه لخطة بديلة عن هذا الاقتتال المأساوي، تنشر “ثقافة الإحياء“، التي تقوم على ثلاثة مبادئ وهي: مبدأ ترك إرادة الإيذاء، ومبدأ اعتبار قتل الأخ لأخيه قتلا للإخوة جميعا، ومبدأ تقديم الإحسان على العدل. (ص 216)
وانطلاقا من هذه المبادئ ينتقد طه “الإسلاميين“، المثقفين والسياسيين، الذين يزاحمون الدولة على سلطتها، ويرفعون شعار الدولة الإسلامية وشعار تطبيق الشريعة، معتبرا هذا الشعار بالمتناقض، لأن مفهوم الدولة الحديثة بُني على مبدأين: “مبدأ الحيازة المطلقة للإنسان“، و“مبدأ السيادة المطلقة للإنسان“؛ في حين بُني مفهوم الإسلام على مبدأين: “مبدأ الأمانة المرسلة للإنسان” و“مبدأ الحيازة المطلقة للإله“. (ص221)
إن مطلب تطبيق الشريعة مستحيل في ظل الدولة الحديثة، وهنا يتفق طه مع وائل حلاق، وأطروحته “الدولة المستحيلة“، من دون أن يذكره، يستدل طه ب“الديانيين”
(= أي الإسلاميون) الذين حكموا دولا عربية ولم يستطيعوا تطبيق الشريعة، بحيث لم يختلف وجودهم في الحكم على وجود الدنيانيين
(= أي العلمانيون)، بل إن بعضهم تبنى،
في نظر طه، صيغا للفصل العلماني بين الديني والسياسي مطلقا عليه اسما آخر: “التمييز“. (ص 222)
يدعو طه الإسلاميين إلى الكف عن مزاحمة الدولة في سلطتها والاكتفاء بمعارضتها بالتي هي أحسن، لأن الاعتقاد بضرورة إقامة الدولة الإسلامية خاطئ من جهتين اثنتين: أولاهما الجهل العميق بالواقع السياسي العربي والدولي، الذي لا يسمح بمثل هذه الدولة، والثانية خطأ القول بأن الإسلام أمر بإقامة الدولة بحجة أن الله جعل الإنسان خليفة في الأرض، لأن المقصود هنا ليس الخلافة السلطانية، وإنما الخلافة العمرانية. (ص 223)
إن قيام “المثقف المرابط” بالتصدي لأطروحات الإسلاميين حتى يقلعهم عن أخطائهم التي تضر بدينهم ومجتمعهم، سيقي الأمة من نصف الفتنة ليبقى النصف الثاني يتقاسمه المثقفون الدنيانيون والأنظمة الحاكمة في الأقطار العربية.
يخلص طه في نهاية هذا الفصل الأخير إلى أن “ثقافة الإحياء“، ليست ثقافة مثالية وغير واقعية، كما قد يظن البعض، وإنما هي ثقافة تستمد أصولها ومبادئها من المجال التداولي العربي، ومفاهيمها تتصف ب“الإنتاجية الفكرية“، وتتميز خصائصها ب“الفعالية والواقعية“. (ص 234)
ملاحظات لا بد منها على كتاب «ثغور المرابطة»
بقي لنا بعد هذا التقديم لأهم ما ورد في كتاب: “ثغور المرابطة” من تصورات وأفكار وحلول، أن نبدي مجموعة من الملاحظات نجملها فيما يلي:
أولا: سواء اعتبرنا هذا الكتاب مثل صاحبه عبارة عن تأمل فلسفي خالص، أو مجرد “تكهن سياسي” يُضاف إلى باقي التكهنات السياسية التي تعج بها الساحة الفكرية العربية المعاصرة، فإنه يعز على القارئ أن يجد مثقفا عربيا كبيرا مثل طه عبدالرحمن يخصص قولا صريحا ومباشرا لأهم تحديات الإنسان في العالمين العربي والإسلامي.
ثانيا: انتصار الكاتب لثقافة الإحياء ضدا على ثقافة القتل، وذلك أعز ما يمكن أن يُطلب هذه الأيام.
ثالثا: تأكيد طه على العمق الإنساني للإسلام، وما يختزنه من نزعة إنسانية تمثل فضاءً مشتركا للبشر جميعا ينتصر لقيم الحق والعدل والحرية، وما أحوجنا إلى مثل هذا الفهم الإنساني للدين في زمننا هذا، وفي مدننا هذه.
رابعا: تشديد طه على ضرورة المعارضة السلمية للأنظمة العربية القائمة، رافضا كل أشكال عسكرة هذه المقاومة، أو دفعها إلى التوسل بالوسائل العنيفة في الإصلاح والإحياء.
خامسا: تأكيد طه عبدالرحمن، على الحاجة الماسة إلى نشر ثقافة التسامح والصفح والغفران، مهما كان ذلك صعبا. ولعمري، فإن هذه وتلك من الأفكار أعز ما يُمكن أن يطلبه الإنسان العربي هذه الأيام.
عبد النبي حري: أستاذ الفلسفة بجامعة الحسن الثاني–المحمدية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.