الخط : إستمع للمقال تساءل حسن أوريد – في مقاله التقديمي للملف الذي أعدته مجلة زمان في عددها الأخير، الذي اختار له أصحابه "العفو عند المغاربة" – حول تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة. وقال: هل هناك مصالحة بدون حقيقة؟ وهل تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة إجراء مرحلي أم حقا، فلسفة ومنظومة عمل؟ يمكن الجزم أن هذا التساؤل رافق هذه الآلية الوطنية الجديدة للعدالة الانتقالية ببلادنا حتى وهي لازالت فكرة يلتف حولها ضحايا الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري، ومعهم المدافعين على حقوق الإنسان وكل الديمقراطيين. قبل أن تتحول إلى توصية وبعدها إلى كيان قائم الذات وعمل ميدانى ملموس. ولعل المرحوم أحمد شوقي بنيوب، الذي تولى باسم فريق من أعضاء المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان الدفاع عن مشروع توصية إحداث الهيئة وذلك قبل عشرين سنة في دورة للجمعية العمومية ترأسها الأستاذ عمر عزيمان رئيس المجلس. شوقي نفسه ومعه الأستاذ امبارك بودرقة اللذان خصصا الكتاب الأول من مؤلفهما المشترك "كذلك كان.. "للإجابة وللرد على نفس السؤال لكنه صِيغَ على الشكل التالي: "أكانت توصية هيئة الإنصاف والمصالحة "مسرحية" أفتى بها النظام السياسي، أم أنها نتيجة مخاض"؟ وإذا كان السؤال هو نفس سؤال أوريد فإن الاختلاف يبقى جوهريا في مواقع أصحابه وفي زمن طرحه. فتجربة هيئة الإنصاف والمصالحة كممارسة منفردة في المجال العربي والمتوسطي جاءت في لحظة تاريخية انتصرت فيها إرادة الدولة العليا بعزيمة، على نفسها. وانتصر فيها النسيج الحقوقي والسياسي والديمقراطي بشجاعة على تردده وشكوكه. وهما معا وعينهما على المستقبل، واجها الماضي بأمكنته الشاهدة على ما وقع وضحاياه المعلومة منهم قبورهم والمجهولة منها. فهل 20 سنة من تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة ولجنة متابعة توصياتها التي لم تستكمل عملها لحد الآن، كافية لتقييم التجربة وإصدار الأحكام عليها كفلسفة ومنظومة عمل رغم محدودية البعد التاريخي والمسافة الزمنية الضرورين الفاصلة مع الحدث؟ أم إن اللحظة هي فقط هي لتقييم المنجز بالمقارنة مع إعلان النوايا عند التأسيس؟ ففيما يتعلق بالبحث على الحقيقة ما بين 1956 و 1999 فيحسب لهذه الآلية، أنها سلطت الأضواء على مجمل الملفات، ومناطق الظل، حتى وإن كانت ليست دائما تلك الأضواء كاشفة، لكنها تبقى كافية لفهم ما جرى في السياق المغربي. وهو ما لم تستطع أن تقوم به لا إسبانيا ولا البرتغال ولا اليونان بعد انهيار أنظمتهم الديكتاورية. أما فيما يتعلق بالتعويض وجبر الضرر الفردي فبعد صرف الحقوق المالية للضحايا وذويهم مع اتخاد إجراءات إعادة إدماجهم المهني والاجتماعي وتأهيلهم الصحي مع استحضار كل الانتقادات وعدم الرضى الفردي، فسيكون جلدا مرضيا للذات تقزيم عمل الهيئة في هذا الجانب. فمن داخل لجنة متابعة تنفيد التوصيات التي قضيت بها خمس سنوات، أؤكد أن تغليب المصلحة الفضلى للضحية أو الضحية المفترضة في بعض الأحيان أو المجموعات كانت هي المؤطرة لعمل اللجنة ونبراسها. وإذا كنت لا أستحسن الحديث عن أرقام المستفيدين المقدرة بالآلاف والمبالغ المدفوعة بالملايير لأن لا شيء يعوض الكرامة التي أهدرت والعمر الذي فنى. لكنني يمكن لي في هذا المجال الجزم أن هذه التجربة – التي قال عنها كوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة حينها، أنها إحدى التجارب الخمس الرائدة في العالم – أنها لم تتجاوزها تجربة أخرى في المبلغ الإجمالي الذي رصد للضحايا. لا بالشيلي ولا بالأرجنتين ولا بجنوب إفريقيا باختلاف الظروف والسياقات. أما أهم إنجاز في هذه التجربة فهو إدماج توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة في أسمى وثيقة تعبر على إرادة الامة، دستور 2011. ليبقى السؤال هل هذه الحصيلة وغيرها كافية لضمان عدم تكرار ماحصل؟ أستحضر هنا مع الدكتور أمحمد مالكي ما قاله الأستاذ عبد الله العروي حول المراحل الثلاث للحرية ففي الأولى نرفعها شعارا نطالب بها وفي الثانية نتمثلها ونستوعبها وفي المرحلة الثالثة نمارسها ونختبرها. وهذه هي المرحلة التي يحصل فيها التدافع ويستمر، بين قوة تريد السير بالحرية وحقوق الإنسان إلى الأمام لتنتج كل آثارها لتصبح ثقافة مجتمعية وقوة تصر على الفرملة وتحاول الرجوع إلى الخلف. ومما لا شك فيه أن يقظة المجتمع بنسيجه المدني ونخبه الديمقراطية، وما أكثرهم داخل دواليب الدولة وخارجها هي التأمين الوحيد لضمان عدم تكرار ما حدث ولجعل تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة فلسفة ومنظومة عمل. وفي الأخير يبقى في تقديري المتواضع جواب حسن أوريد في نفس المقال، واختزاله لهذه التجربة الحضارية رغم تعترها هنا وهناك في مجرد "إجراء مرحلي" فيه كثير من الأديولوجيا وقليل من البحث والموضوعية.