فرنسا تُحصي خسائرها. والضحية هذه المرة حقوق الانسان التي طالما ابتزت بها أمم وحاصرت بها مصالح دول، هي نفس الحقوق والقيم التي أطلق عليها شرطي فرنسي النار وهو يغتال طفل قاصر بدم بارد. هذه هي حقوق الانسان حينما يتحول السلاح الوظيفي الى وسيلة للقتل وإزهاق الأرواح لمجرد الاشتباه! في كل مرة تهاجم فرنسا عبر مؤسساتها الحقوقية دول العام الثالث بسبب حقوق الانسان، غير أن هذه البلدان لا تصل فيها الخروقات إلى حد القتل الممنهج باستخدام السلاح الوظيفي، قد تكون خروقات تتعلق بتقديرات خاطئة لهذه الدول او باعتبارات سيادية لها علاقة بأحكام القضاء وإنفاذ القانون. لكن القتل بدم بارد ليس نهجا بوليسيا داخل هذه الأنظمة التي تسعى فرنسا لسنوات لأن تمارس عليها الوصاية في شؤونها الداخلية، تارة عبر استخدام مؤسسات اوربية كما حصل مع المغرب في قضية توصية البرلمان الاوربي وتارة بتوظيف مؤسسات حقوقية دولية وغيرها.. في ظل الأزمة التي فجرتها قضية مقتل الشاب القاصر برصاص الشرطة الفرنسية، خرجت بعض الأصوات اليوم تلوم الضحية وتناصر الجلاد، واستدعت خطابات الكراهية التي تروج لها بعض النخب الفرنسية أمثال "ايريك زمور" وغيره..لا يُخفي بعض الفرنسيين الديمقراطيين دعمهم لعسكرة الضواحي الفرنسية ضمن ما يطلق عليه في الخطاب الإعلامي الفرنسي بعملية "رونس". تقوم على فكرة تحويل الضواحي الفرنسية إلى منطقة عسكرية مغلقة بوصفها "أراضي باتت خارج القانون وليست جزءا من القيم الفرنسية". هذا التوصيف الذي روجت له النخب الفرنسية هو جزء من سرديات متطرفة تغذي العنف والعنصرية داخل المجتمع الفرنسي وتجد صدى لها في أوساط مؤسسات الدولة، ومنها قطاع واسع في جهاز الأمن، ولعل حادثة مقتل الشاب واحدة من انعكاسات تأثير هذا الخطاب المتطرف على الحياة العامة في البلاد، فلا يمكن بأي حال عزل ما حدث ويحدث وسيحدث من انتهاكات لحقوق الإنسان، عن سياق الأفكار المتطرفة التي تغذيها النخب الفرنسية ونظريات المؤامرة التي تعيش عليها هذه النخب، كنظريات "الاستبدال العظيم" و"عملية رونس" وغيرها.. لم يعد الفرنسيون، بتنوعهم الاجتماعي والثقافي والسلوكي، يعيشون جنبا الى جنب بل أصبحوا يعيشون وجها لوجه، غير قادرين على التعايش وفق المشترك الإنساني. وبعدما استنفذت فكرة "الاندماج" مشروعيتها وتحولت من أداة تثقيف اجتماعي إلى وسيلة إكراه واستلاب ثقافي وهوياتي، بقوانين منع الحجاب وغيره، يبدو أن "الاندماج" لم يعد فكرة مغرية تستهوي النخب الفرنسية مقابل تصاعد خطاب متطرف معادي للآخرين يشكل خطرا على الفرنسيين أنفسهم. خلال العشرية الأخيرة اعتلت دول اروبية عديدة خطابات متطرفة تعادي الأجانب وتأسست ايديولوجيات برمتها على هذا الخطاب العدائي حيث أصبحت اصواته تعلو اكثر في البرلمان والإعلام والمنتديات السياسية وداخل الأحزاب، ولم يقتصر هذا التطرف المسيحي (والمفهوم هنا على سبيل المقابلة مع التوصيف الغربي للتطرف الإسلامي) على الخطاب بل تحول إلى إيديولوجيا سياسية تصادر حقوق الآخرين في الانتماء والهوية والاختلاف بل وتُحرق هذه الايديولوجيا كتبهم السماوية وتسخر من أنبيائهم باسم حقوق الانسان. هذا الانسان نفسه يقتله شرطي فرنسي برصاصة في رأسه حينما يكون أجنبيًا. غير أنه، سرعان ما تراجعت حدة هذه الايديولوجيا في كثير من البلدان الاوربية وبدت كأنها كانت لحظة عابرة في سياقات سياسية وانتخابية ولدت خطاب التطرف والكراهية حيال الأجانب. لكن المثير ان هذه الخطابات التي انطلقت من فرنسا في قضية منع الرموز الدينية وغيرها من الهلوسات الغربية، وجدت بيئة سياسية وفكرية حاضنة لها في المجتمع الفرنسي تضمن لها أسباب البقاء والاستمرارية مع أمثال اريك زمور وجون ماري لوبين وحتى في خطابات الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الذي لم يتردد في استعمال عبارة التطرف الاسلامي، كان ذلك في مناسبات عديدة حيث أصبحت جزءا من الماكرونية التي جاءت للتصدي للنزعة الإسلامية الراديكالية وتخويف المجتمع الفرنسي من كونها ساعية إلى إقامة نظام مواز وإنكار الجمهورية. إن حقوق الانسان قيم وثقافة وخصوصية مجتمعية وليست ايدولوجيا. فقد سبق التنبيه الى أن أخطر ما يواجه حقوق الإنسان هو تحولها إلى إيديولوجيا للهيمنة السياسية والثقافية على الآخرين عبر الاختباء وراء خطابات الديمقراطية. هذه الإيديولوجيا تسعى إلى خدمة مشروع لا يراعي الخصوصية الوطنية لبلدان الجنوب ولا تحديات الانتقال الديمقراطي بها، بل قد تصطدم، لاعتبارات المرجعية، بإشكاليات الهوية والدين والبنية الاجتماعية ونظام سياسي مختلف عن البيئة الغربية التي نشأت فيها قيم حقوق الإنسان بوصفها امتدادا للحقوق الطبيعية. هذه الوضعية تفرض على دول الجنوب اليوم إنتاج معايير خاصة بها لتعزيز حقوق الإنسان، فعلى الاقل لن تسمح هذه المعايير بالقتل العمد للأجانب ولا بترويج خطابات عدائية تغذي النزعة المتطرفة لموظفين وظيفتهم إنفاذ القانون. فأكبر خطر يواجه حقوق الإنسان هو أن يتبنى ويدافع الشعبويون على حقوق الإنسان!