تحولت الضواحي الباريسية ذات الكثافة الإفريقية والمغاربية بفعل تفاقم البطالة والتهميش وغياب المراكز الثقافية والجمعيات الرياضية والترفيهية، إلى ملاذ آمن لعصابات الاتجار بالمخدرات على مرأى ومسمع من البوليس الفرنسي الذي يكتفي أحيانا بالقيام بدوريات خفيفة لمراقبة الوضع، وكأن الأمر لا يهمه سوى من باب الحرص على تجنب شيوع الظاهرة في الأحياء الفرنسية الصرفة. وتكفي نظرة خاطفة على المقاهي الواقعة بالضواحي المهمشة التي تقوم ببيع المخدرات بشكل علني بالقرب من أقسام الشرطة، للتأكد من أن البوليس الفرنسي يجيز ذلك للمهاجر الإفريقي والمغاربي ويحرمه على الفرنسي ابن البلد. وفي أول زيارة لبعض الأحياء المهمشة حيث الجالية الإفريقية والمغاربية تعيش داخل مساكن شبه معزولة، مثل "باربيص" و"غاريبالدي" و"سان دوني" وغيرها، ينتابك الإحساس بأنك في سوق ضخمة للمتاجرة بالمخدرات تزدهر كل يوم بخليط من الجنسيات العربية والإفريقية والآسيوية. وتتحول هذه الأسواق مع بداية النهار إلى مركز لكل أشكال المتاجرة بالممنوعات، يرتادها التجار من مختلف المدن الفرنسية للتزود بكميات هامة من المواد المخدرة تباع في قرابة 20 موقعا من الأحياء الساخنة في المدينة. وتتخصص كل واحدة من تلك الأحياء بالمتاجرة بنوع أو أكثر من المواد الممنوعة، حيث الحشيش والحبوب المخدرة، مثلا، يباعان في المناطق الشعبية والمزدحمة، مثل "باربيص"، و"غاريبالدي" و"ساندوني" و"ستالينغراد"، بينما يملأ تجار الهيروين الأحياء الراقية الباريسية. أما الزبناء فيأتون بسياراتهم لاقتناء أصناف المخدرات من كوكايين وحشيش وهيروين وغيرها على القاعدة المألوفة "سلّم واستلم". والبائعون هم في معظمهم شبان عاطلون يقومون بتوزيع كميات مختلفة من المخدرات بعد استلامها من المروجين الكبار. وثمة زبناء يقصدون العاصمة من المدن الفرنسية الأُخرى، في رحلة لا تستغرق أكثر من يوم، لشراء كمياتهم الشهرية من المخدرات، وخاصة الكوكايين الذي تعددت نقط بيعه وتراجعت أسعاره خلال السنوات الأخيرة، وصار في متناول فئات أوسع من صغار المتعاطين. أما كبار المتاجرين، فيوظفون أكثر الشبان من ذوي الجنسيات المغاربية والإفريقية نظرا لخبرتهم وجاهزيتهم الكاملة للمخاطرة. ويعمدون إلى إيفادهم في رحلات مدفوعة الثمن إلى جنوبفرنسا لكي يعودوا مع كميات مخبأة جيدا في أمتعتهم. ويمكن الحصول على الكيلوغرام الواحد من الكوكايين هناك مقابل 4 آلاف أورو. وتتربع فرنسا أعلى نسب تعاطي الكوكايين في أوروبا (1.6 مليون متعاطي) من مجموع 4.7 مليون أوروبي، فيما تعاطى تسعة في المئة من الأوروبيين (23 مليون) الحشيش سنة 2021. وتمثل الجرائم ذات الارتباط المباشر بالمتاجرة في المخدرات نسبة 20 في المئة، وهي في انخفاض متزايد بعد أن حققت سنة 2010، حسب مصادر الشرطة، 26 في المئة معظمها من تنفيذ أعضاء الجالية الجزائرية (22 %) ثم الأفارقة (17 %) ومن بعدهم المغاربة (15 %) والآسيويون (13 %) والبرتغاليون (10 %) والفرنسيون (8 %) والباقي ينسب لجنسيات مختلفة. وفي الوقت الذي تعمل فيه الجهات الأمنية الفرنسية على تحديد جميع المنازل التي قد تكون ملاذا للجناة وأماكن لبيع المخدرات، بغية تنظيف باريس وضواحيها من صغار المتداولين الذين يبيعون بضاعتهم بالتقسيط، فإن أكثر من 300 شخص تم ضبطهم في قضايا جنائية خلال الأربعة أشهر الماضية فقط، إضافة إلى المداهمات التي تتم داخل هذه الأحياء بعد رصد أماكن المداهمة. والأرقام الفرنسية كما يقدمها المرصد الوطني لمكافحة المخدرات، تتحدث عن نسبة مهمة من الجزائريين الذين يتعاطون المخدرات متاجرة وإدمانا مقارنة مع الجاليات الأجنبية الأخرى. وفي تقويمه لمختلف الأسباب الدافعة لإدمان المخدرات، أوضح المرصد أن المشاكل العائليةوالاجتماعية ومنها التفكك الأسري، وتهميش الأبناء، والتعاطي من باب الفضول، وكذلك البطالة وغياب فرص العمل، هي جميعها عوامل نفسية واجتماعية لولوج هذا العالم الذي يزداد الوافدون إليه بصفة مقلقة؛ خاصة فئة الشباب والمراهقين وحتى أطفال المدارس. وينبه المرصد إلى أن تعاطي المخدرات في الأوساط الفقيرة يتسم بما يعرف بظاهرة التصعيد، التي تدفع بمستهلك المخدرات إلي الانتقال من المخدرات المسماة "بالضعيفة" إلى المخدرات المتوسطة ثم القوية، حيث الظاهرة تشترك فيها كل المخدرات التي تحدث تبعية قوية جسدية كانت أو نفسية، كالتبغ والكحول مثلا. ومن المفارقات أن الجالية المغربية التي هي من بين الجاليات المدمنة على المخدرات، تعتبر أيضا من أكثر الجاليات محافظةً على انتمائها الأول والأكثر ممانعة للاندماج في المجتمع الفرنسي رغم مرور عشرات السنوات على وجودها في فرنسا، حتى إن جيل الشبان يُبدون اليوم ممانعة للفرنسة وتمسكا بالأصل بشكل يتجاوزون فيه أحيانا آباءهم الوافدين في الستينات والسبعينات.