في كتاب دمنات أو الذاكرة المنبعثة من ثم فإن الجماعة – لتعيش وتحقق الاستمرار- فهي مظطرة لتتضامن لمقضيات العمل الجماعي – تيويزي- الذي بدونه لا يستقيم لها وجود سواء تعلق الأمر بمواجهة الأفات أو بإصال الماء إلى المنازل و الحقول ولا يمكن أن تسري الأعراف المنظمة للحياة اليومية على العموم إلا بسيادة الروح الجماعية ، تلك الأعراف -حتى ولو لم يذكرها المؤلف- فإن رعايتها منوطة بفكر الناس ومعتقدهم ذلك المعتقد –ولست مجبرا على النقد هنا – يرتبط بشكل قوي بظاهرة الصلاح ، ربما أكثر من أي جهة أخرى من المغرب . ولذلك كان صلحاء المنطقة أكثر حضورا في ذهنيىة سكان متروكين لأنفسهم ، يحيون حياة هامشية . ومن أبرز هؤلاء الأعلام سيدي بوالبخت الذي لا نشك في أن الناس كانونا يذيلون أعرافهم المكتوبة بالتوسل به وإشهاده على الموقعين ؛ أو يقسمون به ، ويكلون عقوبة من خرق الاتفاق إليه. ونذكر على سبيل الاستطراد أن القائد عمر الكلاوي لم يكن يغتصب ماء الساقية إلا عن طريق اللجوء إلى التوسل بصالح البلدة. لكل هذه العوامل مجتمعة يأتي انعقاد الموسم ليرسخ واقعا مرا ، ينهي سنة من المعانات يتنفس الناس في أثنائه الصعداء ليخوضوا غمار سنة جديدة وكلهم أمل في أن تتحسن أوضاعهم . وهكذا يحتفل الفلاحون والحرفيون والطوائف الصوفية وكل الزوار بهذا الموسم ؛ ولكل حاجة في نفسه يعول على قضاءها في تلك المناسبة الفريدة.ولا بد من الإشارة إلى أن المؤلف هنا تصدى لوصف دقيق لاستعدادات السكان ، فيطلع القارئ على اشياء في غاية الطرافة. ومن ذلك على سبيل المثال : كيفية استقبال الزوار ، وتبييض جدران المنازل وكيفية الانتقال إلى مكان ضريح المحتفى به ومضارب الناس حوله ..... قبل التوجه إلى زاوية أيت أمغار حيث يقع الضريح يحج الناس إلى القية التي تصب منطقة جدب قوية من زوار من مختلف الجهات والقرى ، والفرق الصوفية وأعيان مدينة دمنات وعلى رأسهم القائد ح واحيانا المراقب المدني وبطانته من سلطات الحماية ، ترافقهم كل وسائل الحراسة ؛ مما يمنح المكب المرافق للذبيحة ، هالة البهة والقدسية. في غضون تقديم القربان تنطلق الاحتفالات بطقوس عيساوة وحمادشة التي تثير الاشمئزاز والتقزز ؛ على الرغم من انهم يعدون من أكبر المستفيدين نتيجة ما يجنون من مال بواسطة " حضرتهم " كما كان بعض النساء يقمن بممارسات تصور قتامة واقع مغرب الأمس. وللإشارة فقط فإن بعض الجهات تسعى اليوم إلى إحياء تلك الطقوس ونمحها طابعا رسميا. لكن مما ينبغي الاعتراف به أن اولائك الناس كانوا يسلمون بما يفعلون : ويثقون فيما يعتقدون فتكون زيارتهم مناسبة للتفريج عن همومهم والاتشفاء من أسقامهم النفسية منها على وجه الخصوص . وبإيجاز شديد فالموسم ماسبة للتنفيس عن الناس الذين يعانون من المشاكل اليومية وضغوط المخزن وإذا كان ذلك كله من قبيل التمني أو الوهم أحيانا ؛ فإن الذي يجنيه المحتفلون هو ذلك الاكتاب المزمع لصيانة الساقية وما يتصل بها والذي يشكل الحلقة الأخيرة من مسلسل الاحتفالات. ولم يكن يتخلف عن تلك العملية التي تدعى أشضاض إلا المعدمون . فضلا عن دورها في صيانة الساقية ، فإن لها قيمة أخرى ؛ لإن الأفراد المساهمين في الاكتتاب يكتسبون من وراها أهمية معنوية وقد تجبهم اللمز الذي يقع عادة في أثناء مساجلات أحواش الموسم القابل. ومن ثم نرى القائد يسام بدوره مما يضطر سائر الأعيان إلى أن يحدوا حدوه. وبهذا العمل أيضا تتدعم وحدة القبيلة وتماسكها ودرء الآفات عنها ح سيما وأن الجميع يتوقون إلى محصول جيد في السنة القابلة. ولا ينبغي أن تفوتنا الإشارة إلى أن اليهود لم يكونوا يشاركون في ذلك الموسم حيث يستمرون منهمكين في تجارتهم داخل الملاح بعد أن منحهم توقف الطواحين فرصة العم إذا كانوا يقومون بإصلاح ما فسد منها ( ص 31-35 ) .هكذا ينتهي يوم الأربعاء الطويل عند صة العصر، والذي قدمه لنا الدكتور بداك في حلة قشيبة ولسان حال المشاركين يردد : لو أعطينا الخيار ما افترقنا --^^^-- ولكن لا خيار مع الزمان لكن الأسى يتبدد بسرعة لأن الجميع مستيقنون من سماع خرير ماء ساقيتهم من جديد وانسيابه فوق حقولهم وبساتينهم حاملا لهم الخير والحياة ، واستئناف جعجعة طواحينهم العشر التي أفادت من الاصلاح الضروري . ووصلا مع الحديث عن الموسم والطواحين المائية واليهود، فقد سجل المؤل أن توقف استعمال تلك الآلات قد كان في بداية سنوات الستين حيث وافق هجرة من كانوا سدنتها نحو فلسطين. وكان ذلك أيضا نهاية انعقاد موسم سيديبوالبخت . هذا فضلا عما كان أيت أمغار الذين تجري الاحتفالات على أرضهم يتكبدون من خسائر في الحقول والبساتين والنفقات الإضافية التي تتقل كاهلهم ( يرافق ذلك طقوس خرافية ( ص: 34 ) لكن إذا كانت لنهاية الموسم بالنسبة لأيت أمغار هذه المبرات المقنعة ؛ فإن تلك النهاية بالنسبة للمدينة تتصل بعاملين عميقين : * العامل الأول يتصل بالتحول الجذري الذي وقع في السلطة والذي تولدت عنه عقيلة جديدة. * العمل لثاني وقد تميز بظهور الحركة الأصولية حيث شن الأصوليون حملة شعواء على المواسم والأضرحة والمتصوفة عموما . يزعم المؤلف أن انعقاد الموسم سابق لوجود سيديبوالبخت . لكن ظهور الأخير أضفى قدسية على المكان؛ فكان ذلك ضروريا لأنه أعطى طابعا ملموسا للاحتفال وجعل له قدرة خارقة على حل المشاكل وتجاوز الآفات المهددة لكيان الناس. هؤلاء الذين يزورون الضريح فيقبلون القبر والجدران ويتوسلون بالصالح إلى الله لمتهم بالصحة ويزيد في صبيب ماء الساقية التي ترتبط بها حياة السكان. فاكتساب ذلك الضريح اهمية قصوى نتيجة ارتباط عين الماء الوحيدة التي يفيد منها سكان القرية باسمه: أغبالو ن-سيدي بولبخت ؛ والتي لا تبعد عنه سوى بثلاثمائة متر . وهذا ما حدا بالأسلاف إلى تأسيس موسم يكون هدفه الرفع من مردود الساقية ولا سيما زمن الخصاص كما هو الشأن في فصل الصيف . ومن ثم نفهم مغزى توقيف أو انقطاع الساقية وانعقاد الموسم إبانه. فالهدف هو صرف أنظار الناس إلى الاحتفال من أجل إعطاء مهلة لليام بأعمال الصيانة الضرورية وتحسين مردودية الساقية. أما هدف المؤلف من استعادة تلك الذاكرة – التي انتقشت في ذهنه إبان طفولته – فهو التهمم ببعث ذلك الحدث الذي اختفى بدون رجعة من ذاكرة الناس. فهو يتأسف ويبدي كثيرا من الأسى على توقف الموسم الذي كان يعبر انعقاده عن التضامن والوحدة . وتمنى لو تم إخاج لم يصور تلك التظاهرة سيما وأن موضوع الما في العالم يعد اليوم من أكبر الانشغالات. ولا يني في نهاية المبحث عن طرح السؤال/ اللازمة حول هدف الموسم الذي لم يكن انعقاده كل سنة سوى من أجل القيام بالأشغال التي من شأنها أن تقلل من العوامل التي يترتب عنها تسرب المياه واحتقانه وتبخرها ( ص: 39 ) وقد أفضى بالمؤلف سؤاله هذا إلى الحديث عن موضع إمينفري الذ يتصل به وجود مدينة دمنات والقرى المجاورة لها بل لقد تمنى لو أن ذلك الموضع شهد وضع الحجر الأساس لتلك المدينة الأزلة . ويتر لقلمه العنان لوصف ذلك المنظر الخرب وهو لايخف إعجابه حول طبيعته وما يتصل به من عيون ماء ؛ متمنيا لو كان رساما لوضع لوحة تناسب مشاعره الجياشة. وتتزاحم الذكريات في ذهن مؤلفنا فيتمادى في وصف كل ما احتف بإمينفري . ومن ذلك العدد الكبير والمتنوع من الطيور ؛ ومن بينها نوع قد ألحق بالمحايل الزراعية في سني الخمسين من القرن الماضي خسائر فادحة ؛ حتى كانت آفة حقيقة ( ص : 44 ) ويذكر أن سلطات الحماية سمحت للسكان باستعمال اسلحتهم النارية واعدة بتقديم جائزة 50 سنتيما عن كل طائر يتم قنصه لكن المراقب المدني كان له هدف آخر ويتعلق بمعرفة من كان يملك سلاحا ناريا. وفضلا عن ما كان لإمينفي من فوائد فقد كان الناس يرتادونه للسباحة والاستجمام؛ وأيضا لزيارة ضريح سيدي ناصر أومهاصر. ويحكي الأسطورة المتصلة بذلك الصالح المزعوم وأثره على قرية أيت أمغار .... بل لقد أصبح مزارة لكل نساء تلك الجهة بما في ذلك نساء اليهود اللائي يستحمممن في المياه المنبعثة من العيون التي تكون مجرى واد مهاصر ( ص 47) . وتقوم المستحمة برمي حبات القمح أو الشعير أو الدرة متمنية أن تبت ومعها يلقى رحمها بذرة مولود . وكل ذلك ليصل بنا إلى أن آفة العقم كانت يترتب عنها الطلاق وتعدد مالحة ووجود اليهود بجوار المسلمين فما سر هذه الثنائيات ؟ إذا كان كل نوع ( بالنسبة للماء ) يحافظ على على خاصياته فلماذا نريد "" أختلاط " عنصرين متنافرين ودون انصهارهما خرط القتاد ؟ ويذكرنا المؤلف أن كثيرا من أسماء المواقع والأماكن لم تكن تطلق اعتباطا . وكلما عن له الأمر إ ويأتي بنموذج من ذلك مثلا عين تسمى ملاك إمكر ؛ أي التي تشحد المنجل ويفهم ذلك من خلال ملاحظ بيبها فإذا كان ذلك الصبيب قويا فينبغي حينئذ شحذ آلة الحصاد لأن السنة خصبة وبالتالي يمكن الاستعداد للحصاد أما إذا كان الصبيب ضعيفا أ منعدما فلا حاجة إلى شحذ آلة الحاد لأنها ستكون سنة بقرة عجفاء . فملاك إمكر مؤشر هيدرولوجي لتلك المنطقة ويظن المؤلف أن موضعها مقابل الضريح لم يأت جافا فهو الحارس للقناتين المتفرعتين عن العين وهم الحكم في النزاعات التي تنشب بسبب تقسيم الماء ( ص: 50 ). لكن الأم تغير بتغير الظروف فتعددت المشاكل المتصلة بالماء الشيء الذي فسح المجال لتدخل المخزن. لك المحاولة التي تبناها لم تستطع إيجاد الحل المناسب بل ترتبت عنها مشاكل لم تكن في الحسبان الأمر الذي جعل المسئولين يتراجعون ماذا تعني ذلك ؟ معناه أن التوازنات التي درأها الله في ما خلقه لا تقل دائما تدخل البشر ...فالطبية ترفض كل ما هو دخيل وشاذ ... ألم يكن لسيدي ناصر أومهاصر يد في إعادة الأمور إلى نصابها؟ ويلخص كل ما ذكر سابقا بتوجيه تحية إكبار للصالح سيدي ناصر أوهاصر الذي يجسد كل عناصر الحياة في المغرب التقليدي : الماء ، الحفاظ على التوازن ، التسامح والكرم ، مراقبة أي اختلال ورفض كل ما من شأنه أن يخرق التوازنات البيئية. ويلح المؤلف على الإقتناع بأن لا شيء اعتباطي في الطبيعة . لعله يريد أن يقول . " وكل شيء عنده بمقدار." عبد الجليل أبو الزهور