إلى كل مخدوع ومخدوعة، ولا أنفي أنني كنت منهم، في محمد الفايد، أقدم، بأمانة، هذه الإفادة الخطيرة عن مضمون مقتطف من مقطع فيديو لهذا الأخير، يعرَّي فيه عن وجهه الحقيقي ويكشف المشروع الإيديولوجي الذي يحركه ويؤطر كل ما يزعمه (أو أدركه بالفعل) من علم ومن تخصص ومن خبرة في التغذية والميكروبيولوجي وعلم الفيروسات، الخ. وحتى لا أُتهم بالتحامل على هذا الرجل والانسياق وراء ما يسميه المخدوعون فيه بالحملة المغرضة (وأنا لا أستبعدها) التي تقودها ضده بعض الجهات التي يضر بمصالحها (مصنعو المواد الغذائية على سبيل المثال)، ها كم ما جاء في المقطع (وهو رائج حاليا على الفايسبوك لمن يريد أن يتأكد من هذا الكلام): “…علماء الإسلام، وأنا أحملهم المسؤولية، ستضيع الأمة، ماشي الأمة، ستضيع البشرية، والله ستضيع البشرية إلى العلماء المسلمين تهاونوا ولا ترخاوا ولا شوية تبهروا بهذا العلوم الحقة، هاذي ديال الغرب، هاذ السكانير وبتسكان وهذا التحاليل، إلى تبهروا بهذا العلوم غدي يفرطوا في الشراع، يجب أن لا ينبهر علماء الإسلام بهذا التقدم العلمي لأنه بالنسبة لي لا شيء، لا شيء”. تكرار عبارة “لا شي”، يفيد اليقين لدى صاحبها. وهذه اليقينية والقطعية مرفوضة علميا ودينيا وأخلاقيا لأنها تطفح بالغرور. والعلماء الحقيقيون يتصفون بالتواضع وبتنسيب الأحكام والقناعات والآراء الشخصية. ولا أعتقد أن صاحب هذا الكلام يجهل القاعدة الأصولية المشهورة: “رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”. على كل، لن أصف هذا الكلام بالوقاحة أو بالغباء أو بالجنون، لكن، لن أتردد في وصف صاحبه بالجهل (أو بالجاهل). فهو يجهل التاريخ، وبالأخص تاريخ العلوم وتطورها، أو يتجاهل ذلك بدافع إيديولوجي منحط ودنيء. وفي كلتا الحالتين، فإن هذا لا يشرفه سواء كباحث أو كأستاذ أو كفقيه أو كصاحب قناة يروج من خلالها بضاعته التي قد تبور بمثل هذه الشطحات التي تعري سوأته. فهل يجهل الفايد أن للعلماء المسلمين (وليس الإسلاميين طبعا، والفرق شاسع) يدا بيضاء على التقدم العلمي الذي حصل في أوربا؛ أي في الغرب الذي يبدو أنه يشكل له عقدة مستحكمة تجعله يتلفظ بكلام لا يقوله ولا يقبله عاقل؟ ففي الوقت الذي كانت أوربا تعيش في عصور الظلام، كان الطب والهندسة وعلم الفلك والرياضيات والفيزياء والكمياء وغيرها من العلوم الحقة متقدمة (حتى لا أقول مزدهرة) في الأندلس وفي بغداد (وعلى سبيل المثال، لا الحصر، فقد ظلت كتب ابن سينا مرجعا أساسيا في كليات الطب بأروبا لسنين طويلة)، يوم كان المسلمون يهتمون بعلوم الدين والدنيا معا قبل أن يفوتهم الركب ويطالهم التخلف الفكري والعلمي والثقافي والحضاري، فانغمسوا في الفكر الغيبي، يبررون من خلاله فشلهم في مواكبة العصر. ولا يبدو أننا في الطريق إلى الخروج من هذا الوضع مادام عندنا من يقول مثل الكلام الذي أوردناه أعلاه. أليس من السخافة والانحطاط الفكري وغياب التمييز العقلي القول بأن العلوم الحقة لا شيء أمام العلوم الشرعية؟ فأية علوم أنفع للبشرية وليس فقط للأمة الإسلامية، إن لم تكن العلوم الحقة؟ وأية علوم أنقذت البشرية من فتك الجراثيم والباكتيريا وكثير من الأمراض المعدية…، غير البيولوجيا والكيمياء والعلوم الطبية التي اخترعت أو اكتشفت اللقاحات والأدوية المناسبة لها؟ أما الشّْراع، فلن يمنع العلماء والفقهاء والوعاظ، إن أصابهم مرض خطير من اللجوء إلى خدمات الأطباء وخدمات مختبرات التحليلات الطبية وعيادات الفحص بالأشعة. وأتصور كيف سيستقبل هذا الكلام (كلام الفايد، الذي هو عبارة عن هراء، في الواقع) باستهجان كل من سبق له أن زار مختبرا للتحاليل الطبية تنفيذا لما طلبه منه الطبيب المعالج، فاكتشف أنه يعاني من مرض يتطلب علاجه استعمال المضادات الحيوية، وإلا عرض نفسه للهلاك؛ أو من خضع لعملية جراحية، كان لجهاز السكانير دور كبير في كشف نوع المرض وتحديد مكانه بدقة؛ مما سهل المهمة على الطبيب الجراح، ووفر الشروط التي جعلت العملية تتكلل بالنجاح. أما بِتسكان (Pet scan)، فهو أحدث ما هو موجود من أجهزة الفحص بالأشعة (جهاز الأشعة المقطعية). فقول الفايد بأن العلوم الحقة (ويسمها حقة مع ذلك، بلا حيا، بلا حشمة) بالنسبة إليه لا شيء، يثبت بالملموس أن كل ما سبق أن قاله عن بحوثه حول التغذية (والبحوث، كما نعلم، تكون في المختبرات العلمية التي تستعمل العلوم الحقة؛ وحسب علمي المتواضع، فليس هناك مختبرات “شرعية”، يمكن الاعتماد عليها لإجراء البحوث من أية طبيعة كانت) قد يكون كله كذبا في كذب. فمن يمارس البحث في المختبرات العلمية لن يجرؤ على قول مثل هذا الكلام الفارغ. فنفي العلوم الحقة التي ساهمت في تطور الحضارة الإنسانية (اختراع الكهرباء، الهاتف، وسائل النقل والتنقل بكل أنواعها من الدراجة إلى الطائرة، وغير ذلك من الاختراعات) دليل على ضحالة فكر صاحبه وانحطاط مستواه العلمي والثقافي، مهما كانت شهاداته الجامعية. فالدكتوراه والديبلومات والجوائز العلمية التي حصل عليها قد مرَّغ أنفها في التراب بدافع إيديولوجي معاد للعلم والمعرفة. إن الفايد، بهذا الكلام الذي أوردناه على لسانه في الفقرة الثانية من هذا المقال المتواضع، أخطر على العلم وعلى الأمة المغربة من الرقاة المشعوذين ومن تجار الدين (ويبدو أنه يعمل لصالحهم) الذين يستثمرون في الفقر والهشاشة لضمان حضورهم في مؤسسات المجتمع ومؤسسات الدولة. ختاما، لا أجد، شخصيا، من تفسير لهذه السقطة المدوية، سواء في بعدها العلمي أو الفكري أو الثقافي أو الأخلاقي، أو الديني حتى، سوى العمى الإيديولوجي. وأشكر الله وأشكر من نشر ذلك الفيديو الذي جعل بعض شكوكي تتأكد فيما يخص البعد الإيديولوجي لخطابه الذي يتدثر في غطاء علمي. مكناس في 18 أبريل 2020