لا يمكن عزل الصراع بين الدكتور محمد الفايد وخصومه عن الصراع العام والقديم بين التقدميين بكل تلاوينهم والإسلاميين، وهذا الصراع ليس وليد اليوم ولا نازلة كما قلت؛ ولكنه صراع يعود على الأقل إلى سقوط الخلافة العثمانية ودخول العالم الإسلامي تحت نير الاستعمار الغربي. فبلاد المسلمين لا شك أنها كانت تشكل أنموذجا حضاريا وقوة في العصر الوسيط، يمكن أن يدرك ذلك أي طالب مبتدئ في إطار المعرفي، وهذا النمط هو الذي انبجست منه الحضارة الغربية في جزء كبير منها كشكل حضاري أخير معولم. هذه الظروف بين الحنين للماضي والتعويل على العودة للريادة، وبين فقد الثقة في الماضي والتعويل على الأدوات الجديدة؛ هو ما سيخلق تياران متعارضان، بين منتصر للخصوصية ومنتصر للنموذج الإنساني الغربي المعولم. لم يكن التيار المنتصر للخصوصية في بادئ الأمر إسلاميا صرفا، ولم يكن يؤمن بالعودة للماضي بالحدة التي بشر بها الأنموذج الإسلامي في طبعته الأولى، فقد كان في البداية خليطا من الإسلاموي والقوماجي يحاول الخروج بأقل الخسائر، وفي إطار الممكن قبل نشوء الأيديولوجيا الإسلامية ونقيضها التقدمي. وقد تجلى الصراع لأول مرة ظاهرا في الخصومة الشهيرة بين العميدين طه حسين والرافعي، لتخرج هذه الخصومة من الأدبي إلى السياسي وتمتد بتبعاتها إلى اليوم مرورا بالصراع الأكبر بين اليسار الاشتراكي والإسلاميين. ومع أن الظروف الاجتماعية، وطبيعة تكوين شباب الحركة الوطنية، والظروف الدولية، وتركات الاستعمار؛ كانت تحتم أن تكون طبيعة الدولة حداثية، فإن البداية المتعثرة في كثير من البلدان وامتداد الصراع إلى تحديد طبيعة الشعب، والتعليم، والمناهج، انتهاء إلى تعثر الأنموذج الليبرالي والاشتراكي في الاقتصاد والسياسة، كل هذه الظروف أعطتنا تربة خصبة لنشوء الخطاب الإسلامي الحركي الباحث عن البديل في الخلافة. لقد استطاع الخطاب الإسلامي أن يمتد ويلقى لنفسه القبول بين البسطاء وضعاف الحس النقدي، والمعانين من فشل الدولة الناشئة، والحالمين بطوباويات الخلافة، كل هذا أدى إلى هزيمة التيارات التقدمية شعبيا شر هزيمة، حتى إنه لولا العلاقات الدولية لما كدت تسمع للتيار التقدمي ركزا في بلاد المسلمين. لم ينشأ الدكتور محمد الفايد داخل الحركات الإسلامية، ولكن الدكتور هو واحد من نتاج الظروف التي ينشأ داخلها العقل العلمي في المدارس والجامعات المغربية. فطالب العلوم في المغرب يقضي سنوات من تحصيل المعرفة العلميىة لكنه ينتهي به الأمر إلى فراغ في الحس النقدي، وقد ينتهي به الأمر إلى ضحية مفترض لنقيض منهج العلم في الخطاب الإسلامي، وهذا للأسف واقع لا يمكن إنكاره؛ فالعقل العلمي أكثر قابلية للتخريف وغياب المنهج، بل قد يتفوق في هذا حتى على العقل الشريعاتي . وقد انتهى بي الأمر إلى التعرف على رجال تعليم يعتقدون بما لا يصدقه حتى عتاة السلفيين. إن محاكمة الدكتور الفايد لا تخرج عن ضرورة التفريق بين العلمي وخلافه، أو على الأقل ما ليس من طبيعته ومجاله، فالدكتور الفايد له حسنات، وحسناته تغلب على سيئاته، وربما آخذه شانئوه بسيئاته لاعتبارات أيديولوجية، وربما تعاطف معه كثيرون لاعتبارات نفسية أو أيديولوجية، أو ربما لأن له فضلا على حياتهم، أو أنهم يحسون فيه نوعا من السند ضد تجار الأمراض، والمآسي، والأطباء الجشعين..وهذه أمور لا يمكن إغفالها بأي حال. ولكنها لا تخرج عن إشكالية في المنهج عند الفريقين. فوجود شركات رأسمالية جشعة هو واقع، ووجود أطباء ليس فيهم حس الإنسانية هذا واقع، لكن الرأسمالية لا تعني الحداثة فيما قامت عليه في الانتصار للإنسان، والطب كمعرفة علمية ليست هي الطبيب ولا أهداف المشتغلين بالطب، والغرب بما يحمله من قيم فردية وجماعية لا تعني بالضرورة الامبريالية..فهذه الإشكاليات المنهجية البسيطة وتلبس الخصومة الايديولوجية بالعلم والفلسفة حينا، وبالإسلام أحيانا؛ هي ما تخلق هذه المشاكل، بل إنها هي ما جعل كثيرا من فراخ الإسلاميين يشعرون على الدوام أن العلم خصم لله والدين بفعل هذا التلبيس الإيديولوجي. إن الدكتور محمد الفايد ليس إسلاميا حركيا، ولكنه يخضع للسيكلوجية العامة التي تشترك فيها كل البدائل الإسلامية على الإطلاق، وأنا هنا أسميها وضعية سيكولوجية لأن لا علاقة لها بالتراث ولا بما يقوم عليه الإسلام، فنحن لا نعثر عليها لا في التراث ولا في أصول الدين. وقد يقول قائل إنه إذا لم تكن إسلامية فمن أين جاءت حتى اشترك فيها كل مؤمن بالحل الإسلامي ؟..فأقول: إن هذه الحالة نشأت في ظروف النكسة الإسلامية إبان سقوط الخلافة العثمانية، فنشأت هذه السيكولوجية في محاولات دفع التغريب، والإجابة عن الأسئلة الملحة أمام التيار الجارف للحداثة والعولمة. وبصرف النظر عن هل نجحت الحركات الإسلامية في بدائلها أم فشلت، فإن تاريخ الحركة الإسلامية هو تاريخ من المقاومة البدائلاتية التي اعتمدت في جزء منها الحرب غير الأخلاقية وبعض الأدبيات التي امتحتها من التوجه الماركسي، فالماركسية كما صرح ‘لينين' يخول لها أن تخوض الحروب بالوسائل المشروعة وغير المشروعة، فكانت الحركة الإسلامية مضطرة إلى الكذب، والإيهام، والمغالطة؛ لتكثير السواد والتأثير على العوام لضعف مستواهم النقدي ولو على حساب الحقيقة والروح العلمية. إن هذه السيكولوجية العامة المعتمدة بالأساس على نظرية المؤامرة، والخوف من العلم والفلسفة، واعتبارهما نتاجا غربيا لا إسلاميا هي ما أعطتنا الدكتور محمد الفايد؛ الذي نحسبه شخصا طيبا وصادقا وعفيفا، لكن هذا لا يعني التعفف عن التنبيه إلى الأخطاء المنهجية التي قادته للخلط بين منهج العلم وغايات وطرائق مخاطبة العوام وضعاف مستوى النقد. فعيب الدكتور الفايد أنه كل ينطق به نابع من افتراض عدو متربص، وهذا ما تعشقه العامة أساسا، الإحساس بالخطر الدائم، فالعلم غايته العلم، وهو غاية في ذاته وليس وسيلة لتثبيت الجهل وصناعة الوهم. بل إن هذا عيب الحركة الإسلامية ككل والتي لم تتخلص من تبعات الغاية تبرر الوسيلة، غاية تكثير السواد ولو على حساب الحقيقة. وإنه لئن كانت المؤامرة على الإسلام والمسلمين واقعا بدرجة ما، فإن الحقيقة تقتضي أن يتم الاحتكام في ذلك إلى أسس العلم والتبين في احترام تام لمنهج البحث. لقد نطق الدكتور محمد الفايد بأخطاء شنيعة في مخاطبة العوام أملتها عليه سيكولوجته الإسلامية وطبيعة متلقيه، بل حتى طبيعة تكوينه . ويقظة بسيطة من باحث مبتدئ سيدرك زيف ما ينطق به الدكتور وعوره المنهجي البين خاصة عندما يقفز إلى خارج تخصصه. وهذا على خلاف ما ينشأ عليه الفرد داخل الحركة الإسلامية من التحقق من ادعاء مدع، فمن هذا الفرد الذي سيقول ربما سها الدكتور أو أخطأ فيعود للتحقق ..فالفرد الإسلامي لم ينشأ على هذا للأسف، وربما تم تغليب تربية النفس والروح على تربية العقل والمنهج العلمي الذي يزخر به التراث الإسلامي. إنها في النهاية حرب أيديولوجية يتم فيها إقحام العلم ليس لغاية العلم. والدكتور الفايد ليس واحدا وخصومه ليسوا واحدا. فالتدليس هو حرفة المتربصين من الخصماء، والحرب على الفايد ليس هدفها الفايد في ذاته ولكنه صراع قديم في محاولة تقزيم أو إسقاط الرموز قد يمتد الأمر ببعض إلى كل مابه رائحة الإسلام أو ما به رائحة العلم والفلسفة، وهذه أمور لا تخرج عن كونها حربا أيدلوجية خبيثة لا غير. فالعلم التجربي لن يؤثر فيه لا الفايد ولا خصومه، والعلم لا ينتمي للفايد ولا لخصومه وليس ندا ولا صديقا لأحد، إنه فقط يستجيب لشروطه العلمية، والفايد وخصومه يفهمون هذه الأمور، بل إن كل المعارف العلمية والإنسانية كلها لها قواعد تؤطرها يعلمها العالمون ولا يؤثر فيها مؤثر، فالفقه له قواعد يعلمها الفقهاء؛ والتاريخ له قواعد يعلمها أهل التاريخ؛ واللغة لها أهل العلم بعاداتها وقواعدها؛ والفن له قواعد يعلمها أهل الفن..أما الأيديولوجي فهو خلاف كل هذا…أما وظيفة طالب العلم فالتفريق والانتباه إلى كل خلط أو تطفل.