عرفت كلية الآداب والعلوم الإنسانية ببني ملال حدثا سوسيولوجيا هاما بخصوص افتتاح موسمها الجامعي 2018/2019، تميز بتنظيم شعبة علم الاجتماع من خلال فريق البحث الموسوم:”بنيات وديناميات المجتمع”، وبمشاركة نادي:”المعرفة السوسيولوجية” الدرس الافتتاحي الثالث و الذي يأتي في سياق تقليد سنوي دأبت الشعبة وفريق البحث فيها على تنظيمه، بالإضافة إلى العديد من الأنشطة العلمية والسوسيولوجية المختلفة حول القضايا المرتبطة بالأسس النظرية للسوسيولوجيا والواقع السوسيولوجي المغربي، وذلك بغية الجميع بين التأطير النظري من جهة والميداني من جهة أخرى ، كما حرص فريق البحث في شعبة علم الاجتماع منذ تأسيسه على الحفاظ على هذا التقليد الجامعي وترسيخه وتثمينه لدى الطلبة، و الهدف منه الانفتاح والتعرف على أطر وأساتذة من مختلف الجامعات والمؤسسات المنتمين إلى الحقل السوسيولوجي بشكل خاص، والعلوم الإنسانية بشكل عام، وهو ما يخلق حوارا بين الباحثين والطلبة والأكاديميين، وفي هذا الصدد قدم الدكتور عبد الهادي الحلحولي الذي يشتغل أستاذا لعلم الاجتماع بكلية الآداب والعلوم والانسانية ببني ملال، ورئيسا لمركز أطلس للبحوث الاجتماعية، وعضو بنية البحث بذات الكلية بمداخلة بين فيها: أن الاحتفاء بأعمدة الدرس السوسيولوجي المغربي على مستوى جامعة السلطان مولاي سليمان يندرج ضمن تصور عام للتكوين والتاطير العلمي للطلبة. فإحياء هذا التقليد الأكاديمي بشعبة علم الإجتماع من داخل الكلية، تكمن أهميته في ربط الأواصر بين الأجيال، وفتح المجال أمام أساتذة راكموا تجربة غنية في التدريس والتأطير والبحث لكي يساهموا بدورهم في اللقاء بجيل من الطلبة الذين لازالوا في بداية مشوارهم الجامعي. وقد استطاع الدكتور عبد الغني منديب من خلال موضوع هذا الدرس الافتتاحي حول :”السوسيولوجيا والتحولات الاجتماعية: الفهم والتفسير” أن يجعل منه موضوعا بيداغوجيا، قارب من خلاله مبادئ وأسس التحليل السوسيولوجي. منطلقا من سؤال مركزي لخصه في الإشكال الآتي: ما هي الأسس النظرية والميتودولوجية التي تجعل قيام الخطاب السوسيولوجي بشكل عام وفي المغرب بشكل خاص ممكنا حول الواقع الإجتماعي؟ وما هي أبرز سمات هذا التحليل السوسيولوجي؟. انطلق السوسيولوجي عبد الغني منديب في محاضرته من تحديد الأسس التي يستند عليها التحليل السوسيولوجي وينتفي بانعدامها، وأعطى الأولوية لمفهوم “الإبدال/البراديغم بلغة توماس كون”، والذي يحيل على مجموع القوانين والقواعد والضوابط التي تحكم مجالا علميا أو مهنيا معينا، حيث يرى بأن للسوسيولوجيا إبدالا/براديغما خاصا بها، ولا يمكن أن تنزاح عنه، وإذا ما تم الانزياح عنه، انتفت ماهيتها وأصبحنا أمام شيء آخر غير السوسيولوجيا. هنا، يبدو الرجوع إلى أهم قاعدة دوركايمية، والتي تتعلق بأن السوسيولوجي لا يفسر ما يقع داخل المجتمع إلا بما يقع بداخله مهما .ومعناه أننا لا نفسر الغيبيات، لا نفسر بالصدفة، بل نفسر ظواهرا اجتماعية ووقائع اجتماعية بأخرى، هذه هي القاعدة الأساسية في براديغم السوسيولوجيا.وعليه، تسائل الأستاذ المحاضر حول: ما فائدة العلم إذا لم تكن أهميته تكمن في مساعدتنا على القطع مع الحس المشترك في تفسير الظواهر الإجتماعية؟. و يحيل الحس المشترك في التحديد السوسيولوجي على الكيفية التي يؤيل بها الفاعلين الاجتماعيين الوقائع الاجتماعية، فهو يشير إلى المعرفة العامية السائدة والمنتشرة بين جميع أفراد المجتمع. وعليه، السوسيولوجيا عندما تأتي تحدث قطيعة بين هذه المعرفة العامية وبين المعرفة العلمية، وإلا ما جدوى العلم إذا كان هذا العلم سيكون امتدادا للحس المشترك، وبالتالي، نتساءل: ما فائدةالمؤسسات الجامعية؟. ومن بين المرتكزات النظرية والمنهجية التي يرى السوسيولوجي منديب عبد الغني أنها تشكل ماهية السوسيولوجيا، وتجعل منها علما قادرا على تغيير نظرتنا للعالم، طبيعتها المرتبطة بالميدان التي تقتضي سوسيولوجيا محترفا لمهنته قادرا على وضع مسافة ابستمولوجية مع كل خطاب إيديولوجي، بعيدا عن دائرة “الينبغيات/الواجبات” الأخلاقية. فالسوسيولوجيا تمنح نفسها للتجريب والإختبار، وكل علم يخشى ذلك، فهو إديولوجيا. لذلك، فالسوسيولوجي، عندما يفكك الظواهر الإجتماعية، فهو يلعب دوراً تنويريا. كما أشار الأستاذ المحاضر إلى تضمّن الإبدال/البراديغم السوسيولوجي، لمجموعة من الإبدالات/ البراديغمات الفرعية، التي تختلف من نظرية إلى أخرى داخل السوسيولوجيا. يحدث هذا عندما تتغير الأساسيات وتتطور المعرفة أو يتطور الواقع، الشيء الذي يحدث تغييراً ما، ولكنه ليس تغييرا إراديا بقدر ما يكون تغييرا تراكميا ناتجا عن تراكم، وهذا التراكم يكون عبارة عن تراكم جدلي، بمعنى أن اللاحق يستفيد فيه من السابق ويتجاوزه ولكن داخل كل هذه الإبدالات الفرعية هناك الإبدال العام/البراديغم الموجه، والذي من دونه، لا يستقيم التحليل أي: فهم وتفسير الظواهر الإجتماعية. لم يقف الأستاذ المحاضر عند تفكيك أساسيات العلم السوسيولوجي، بل أقترح تمرينا بيداغوجيا في غاية الدقة. عبر عنه بنمذجة “الانتقال الديموغرافي” باعتباره تعبيرا عن تحول اجتماعي مرتبط بتغيرات اجتماعية أساسية، كمية وكيفية تعتمل داخل المجتمع المغربي خصوصا، والعربي عموما، اقتضى تفسيرها فهما وتفسيرا سوسيولوجيا وفق قواعد الإبدال/البراديغم السوسيولوجي. حيث كشف البحث السوسيولوجي في نظر الأستاذ المحاضر الموجه نحو الكشف عن أصل الظاهرة، إلى ضرورة ربطها بالقرار الرسمي الذي اتخذه المغرب نهاية ستينيات القرن الماضي. بعدما نبه المغرب من قبل عدد من التقارير الدولية إلى أن نموه الديموغرافي كان مرتفعا على ضوء قدراته الاقتصادية، وبالتالي كان عليه أن يبدأ وأن يهيئ سياسيات عمومية وقرارات استراتيجية و استباقية من الدولة لتغيير هذا الوضع والتحكم فيه، وهنا يبرز الدور الوظيفي للسوسيولوجيا، فهي ليست دائما علما مزعجا بتعبير بورديو، بل هي علم وظيفي أيضا ويكفي أن نعود لظروف نشأتها وتوظيفها تاريخيا سواء على مستوى ضبط الحركات الاجتماعية أو دراسة البنيات الاجتماعية وفهمها إبان الاستعمار، لذلك استوجب القيام بالانتقال الديموغرافي-على الرغم من أنه لم يكن أمرا سهلا وهينا- من الدولة البدأ بالقيام بالمسألة. وتكمن الصعوبة في وجود ارتباط وثيق بين السلوك الإنجابي وبين المسلكيات الديموغرافية، أي بين الخصوبة وتمثلنا للخصوبة وبين الاعتقاد الديني، لقد كانت البنية الذهنية هنا متغيرا أساسيا وعائقا ابستيمولوجيا اعترض السياسي والعالم السوسيولوجي في تنفيذ وتنزيل هذه القرارات، لذلك تمت الاستعانة بالدين كإستراتيجية لشرعنة القرار عن طريق فتوى للشيخ “محمد المكي الناصري” تقول بأنه ليس هناك من تناقض بين تنظيم الخصوبة وما بين الشريعة الإسلامية، الأمر الذي كان له الفضل في بناء هذا القرار المتمثل في الانتقال الديموغرافي، فلو لم يقم المغرب بهذا الانتقال لكان اليوم يعيش أزمة حقيقية، إلا أن هذا القرار كان مناسبا وسليما، لكونه لم يحد فقط من نسبة الخصوبة، بل غير النظرة التي كانت سائدة عن الطفل خاصة بالمجال القروي، وهو ما خلق “وعيا بالطفل و حقه” في التربية والوجود والنمو – وهذا هو ما أنتجه الانتقال الديموغرافي- فالإعتراف النسبي بالطفل وبالقيمة السيكولوجية للطفل يمكن إرجاعه إلى هذه المحطة، وهي الآن التي نراها بأنها موجودة تقريبا ب 99% في الوسط الحضري، أي أن ما يدفع الآباء للإنجاب ليس أن الأطفال سيكونون مكسب رزق وإنما يريد الأب أن يجسد في الطفل تصوره التربوي ومشروعه الشخصي للنجاح، ويكون هذا الطفل أحسن منه، الشيء الذي لو أن المغرب لم يقم بالانتقال الديموغرافي لكان بعيد المنال. ومن بين التغيرات الإجتماعية التي أحدثها هذا الانتقال الديموغرافي، أنه غير شيئا ما النظرة التي كانت معطاة حول المرأة، بحيث يتم إعدادها منذ صغرها لأن تصبح أما أو زوجة فقط. في هذا الصدد، يتساءل الأستاذ المحاضر: كم من المغاربة اليوم الذي يهيئ ابنته فقط لكي تكون ربة بيت وزوجة فقط؟ الكل الآن يدفع بناته مثل أبنائه الذكور إلى التعلم وكسب العيش. في الأخير اعتبر الأستاذ المحاضر أن هذا التمرين السوسيولوجي ككل التمارين السوسيولوجية يبقى مهما للأجيال من الطلبة والباحثين، لأن في نظره عندما يتخرج الطالب من شعبة السوسيولوجيا، فإنه لا يأخذ معه معلومات فقط، بل يأخذ معه طريقة ومنهجا في التفكير. وهذه الطريقة هي التي ستؤدي إلى طريقة تدبير جديدة وإنتاج فاعلين سوسيولوجيين جدد، بل سيأخذ معه حزمة وحقيبة من الأدوات المعرفية والمنهجية، هذه الأدوات التي عن طريقها يشتغل على كل الظواهر الأخرى، أي هذه الأدوات النظرية، المفاهيمية، الإبستيمولوجية، المنهجية هي التي سوف تسعفه في فهم وتفسير كل الظواهر والمؤسسات والتمثلات الاجتماعية. لذلك، تسمح لنا السوسيولوجيا حسب الأستاذ “عبد الغني منديب” بفهم هذا التغير الذي لا نراه ولا نلمسه، ولا يمكن للسوسيولوجي أن يفهم ويستوعب ويفسر إلا إذا كان حرفيا متقنا لدوره ولمهنته. إعداد : د. عبد الهادي الحلحولي، أستاذ علم الاجتماع، كلية الأداب والعلوم الانسانية ببني ملال.