كنت في خرجة إلى "إغبولا"، أي منابع الواد الذي يخترق تاغية، ويتدفق رقراقا ليسقي البشر والحيوان والنبات في "أزغار". مناظر طبيعية خلابة رائعة، ومياه عذبة باردة تروي بها عطش الدهر. وأثناء عودتي، في المساء، وبينما كنا في سمر ليلي نتحدث عن الحكم الأمازيغية القديمة، ونضحك على المقولة القائلة بأن إقليمأزيلال بقرة قرناها في تاغية وضرعها في "أزغار"، ومعناها أن مياه منابع تاغية يستفيد منها الفلاحون الكبار في الأراضي المستوية (لوطا) في مناطق أخرى، إذ بهاتف أحمد، المرتبط بشبكة "أورونج"، وهي الشبكة الوحيدة التي تشتغل أحيانا وتنقطع أحيانا أخرى، أما بقية الشبكات فتغطيتها منعدمة، مطلقا، يرن، وكان الخبر مرض شاة، في "تارحالت"، تم ذبحها لا حقا. أخبرني أحمد أنه سيذهب صباحا لتفقد الوضع، وبدون تفكير طلبت مرافقته، فأبدى موافقته، وانفقنا على أن ننطلق باكرا. انطلقنا بعد الفجر، والظلام ما يزال راخيا سدوله على جبال تاغية الفاتنة. ويبقى المسار الوحيد هو المرور عبر الممرات الأمازيغية، حيث أكد لي أحمد، أن "إيرومين"، أي "النصارى"، وهو المصطلح الذي يطلق على السياح الأجانب الغربيين بالتحديد، هم من جلبوا وثبتوا السلاسل والحبال الفولاذية التي لا غنى عنها للعبور إلى وعبر الممرات، وبدونها فسيكون الوادي في الإنتظار، لا قدر الله. وأنهم، في إطار المزاح الممزوج بالحقيقة، أي "هدرة ونية"، يقولون لأهل القرية "بدوننا لا تستطيعون العيش". وفي طريقنا ل"موطن إرحالن" ، حكى لي أحمد القصة المريرة لصراع، منذ عهد الإستعمار، بين دوار تاغية و"إلمشان" حول المراعي، وهي قبيلة من الرحل تنحدر من جماعة إكنيون، بإقليم تنغير، يأتون صيفا لجبل مقابل لتاغية بأعداد كبيرة تقدر ب800 خلق، وهو النزاع الذي دخل إلى المحاكم منذ مدة، دون حل نهائي. وذكرني ذلك بصراع دام بين قبائل أخرى بإقليمأزيلال، كأيت حساين وأيت عطا وأيت عبدي… وهي نزاعات "خلقها" المستعمر الفرنسي، وعجزت الدولة المغربية عن حلها، نهائيا، بعد الإستقلال. تجاوزنا الممرات الجبلية، ولمحت وسائل تستعمل في البناء فسألت أحمد: كيف وصلت إلى هنا؟ فأخبرني أن الشاب الذي يرغب في بناء مأوى صغير هو من حملها على كتفيه. يا إلهي! كيف يحمل "برويطة" و "بوطة"… على كتفيه ويمر عبر كل تلك الجسور المعلقة الخطيرة؟ أجابني مرافقي: لا حل آخر غير ذلك. فالمواشي والمؤونة وأدوات البناء وبقية الحاجيات الضرورية لحياة الرحل تحمل على أكتاف وظهور الناس، وتمر حتما عبر كل تلك المسالك المعلقة المسنودة بالحبال والسلاسل، ولكم أن تتخيلوا المشهد. وبعد تسلقنا للجبل مسافة وقد تركنا الممرات وراءنا وصلنا أخيرا إلى الكوخ الذي يستعمله أحمد وشريكه ك"مسكن" لهما ولماشيتهما ولجنا إلى الكوخ، ومن خلال النظرة الأولى، انقبض قلبي، وتغيرت نبرة صوتي الممزوجة بحشرجة تحاول منع دمعات من الهطول اجتمعن في مقلتي، على حين غرة، دون استئدان. ورحت أجول بخاطري وعشرات الأسئلة والأفكار والمقارنات تتزاحم في مخيلتي. أيعيش بني الإنسان، فعلا، في مغرب القرن الواحد والعشرين، في هذه الظروف المزرية؟ لمحت "جثة" الشاة المذبوحة وهي ممدة في ركن من الكوخ، وأدخل أحمد يده في كيس مملوء بالشعير، والذي يلعب دور الثلاجة، فاستخرج تفاح مخبأ داخله حفاظا عليه من التلف. وتتوالى المشاهد واللقطات "العجيبة" لحياة الرحل. صور شبه أواني مهترئة و فراش من الأسمال مبعثر و بقايا طعام، يصعب تخيل أنه معد للبشر أيقظت هاتفا داخل أعماقي يطلب مني أن أصور جزءا من عيش صعب يتحدى قساوة الطبيعة من جهة، وتهميش ونسيان الدولة، من جهة أخرى. وهكذا كان الروبورتاج، الذي ستشاهدونه أسفل هذا المقال. وبدون مشاهدة الصور والحوار، لن تفهم ولن تشعر بمعاناة "شعب الرحل". ألتقيكم في المقال الأخير حول الطريق والمسجد وخلاصات الرحلة!