انتصف الليل منذ ساعة، ويأبى النوم أن يغشى عيني، ويأبى دماغي أن يتوقف عن التفكير. أحمل هاتفي لأتصفح مواقع التواصل الإجتماعي، فأجد جدران الفيسبوك قد امتلأت إشادة ومديحا. أفتح رسائل الواتساب، فأجدها مثقلة بروابط خبر مداخلته "التاريخية" و"النارية" و"العميقة"… لماذا تصر على تعذيبي، كل مرة؟ لماذا تستميت في حرق أعصابي؟ لماذا تقسم أن تسرق النوم الهانئ، الذي استمتعت به لعقود، من عيوني؟ لماذا تتلذذ بالتنكيل بي؟ قل لي بحق رب السماء، من أتى بك إلى أرضي وقلعتي؟ أية مؤامرة أرسلتك إلي؟ ما هو الذنب الذي ارتكبتُه لكي تعاقبني بهذه الطريقة البشعة؟ قل لي.. لماذ؟.. قل لي.. لماذ؟ .. لماذ؟ لماذ؟ .. ماخ؟ ..ماخ؟ لعلكم، قرائي الأعزاء، تتساءلون عن المصاب الجلل، الذي أصاب قلبي وكبدي، وعصف بأعصابي ومزق أوصال كياني، وجعلني هائما على وجهي… إني لأجد صعوبة في التنفس، فبالأحرى الحديث عما يخالج دواخلي، ولكن اسمحوا لي أن أحكي لكم قصتي، وهي ليست قصتي وحدي، وإنما قصة مجموعة من رفاقي وأصدقائي وزملائي، يعيشون معاناة ويصارعون أمراضا مزمنة، بعد مجيئه و مزاحمته لنا في ميدان، قالوا لنا أن الله اصطفانا للعب فيه وحدنا.. نعم أعلم أنكم تتساءلون من يكون هذا " المسخوط"؟ مهلا، سأجيبكم، ولكن اقرؤوا، أولا، قصتي فإنني لا أطيق سماع اسمه، فبالأحرى أن أذكره بلساني الشريف. قصتي، ياسادة، بدأت قبل أربعة عقود، قبل أن يولد أغلب من يتحدث، بهتانا و زورا، عن " المداخلة التاريخية"، ماذا تعرفون عن التاريخ؟ لم أقلها أنا، الذي تجاوز عمري قرنا وعاشرت ثلاث ملوك. حكايتي بدأت عندما كانت السياسة خاصة بمن يستحق من ذوي الجاه والنفوذ والمال والقمح والزيت ورؤوس الأغنام والأبقار… و لذلك، لم أجد صعوبة في ترؤس جماعتي لأربعة عقود متواصلة. فالإستحقاق والمنطق الرياضي، يمنحانني الرئاسة، بدون منافس. فكان ترشحي يغني قبائل المنطقة عن الصراع والإقتتال ويؤدي، نجاحي الدائم، إلى بسط الأمن والإسستقرار في كافة أرجاء جماعتي المباركة. أليس هذا انجازا تاريخيا، يا من يبخسون عملي؟ إنها العدمية يا سادة… وبعد أن تعبت من كرسي الجماعة، يا سادة، بدا لي أن شيخوختي وعظامي النخرة تحتاج مقعدا وثيرا، وجلسة مريحة تحت قبة " سيدي برلمان"، فكان المنطق الأريسطي، مرة أخرى، يتطلب وجود رجل شريف و إنسان حكيم " بعقلو" ، راكم من التجربة والخبرة والثروة، داخل الزاوية البرلمانية. وصدقوني، أحبتي، فقد حصلت على المقعد، في المرة الأولى، بكل سهولة ويسر. وتلقيت التهاني والتبريكات من القارات الخمس. وما أن وطأت قدماي صرح ذلك المقام المقدس، حتى غفوت غفوة ولما استيقظت، رأيت الشمس قد أشرقت من مغربها. ألا يكفيكم هذا دليلا على أهليتي؟ أم أنكم لا تؤمنون بالغيب؟ أين المشكل إذن؟ مشكلتي، يا سادة، ستبدأ مع ظهور ولد صغير قرر أن ينافسني، " دقة وحدة"، في الإنتخابات البرلمانية الأخيرة. كيف يجرؤ، فرخ صغير على منافسة نسر كبير مثلي؟ جن جنوني وفقدت أعصابي، وفعلت، رفقة محبي السلم و السلام والإستقرار في المنطقة، المستحيل لكي لا يترشح. تم إغراؤه.. تم تهديده.. لاشيء أتناه عن منافستي. أرأيتم الجرأة والتطاول؟ أسمعتم عن شاب بالكاد بلغ الثلاثين ينافس شيخا ناطح المائة؟ ماهذا التناطح، يا سادة؟ لم يكن يجرؤ أن ينافسني القماقم و الشلاغم، عندما كانت السياسة سياسة، فأحياني الله حتى ينافسني أبناء أواخر الثمانينات. ألا يعلم، أنني حين ولدته أمه كنت قد قضيت دهرا في رئاسة الجماعة؟ لا أخفيكم، يا سادة، أن ظهور ذلك الغلام، في جبال الأطلس، قد سبب لي صداعا وشللا نصفيا في النصف الأيسر من المخ. هذا المخ الذي طالما اعتنيت به وطالما وضعته في قُلة باردة، ولم أدخله إلى المدرسة قط حفاظا عليه من جدول الضرب والإعراب والصرف والتحويل… قد أصابه صاحبنا برجة قوية. خرج في مسيرات تبعه فيها الآلاف وهتفوا باسمه: سواء أسا.. سواء أسكا.. وخاليد أينرا". لقبوه بأردوغان.. سموه الظاهرة؟؟ سرق مني الشهرة، وأزاح عني الأضواء. وأكثر من كل ذلك، بدأ الناس يقارنون بيني وبينه. لماذا مقارنة ما لا يقارن؟ هل حكم المدة التي حكمتها؟ هل كان " شيخا" أيام الإستعمار؟ هل يملك الأراضي والأنعام التي أتوفر عليها؟ أيها السادة، لا أفهم كل هذا المديح والثناء والشكر، الذي يخصون به ذلك الفتى. ولا أدري لماذا يكرهونني و يصفونني بالأمية والشيخوخة وانعدام الكفاء؟ لماذا لم يكونوا يستطيعون فتح أفواههم قبل بروز هذا المارق؟ يقولون أنه يتقن فن الخطابة والتواصل وغيرها من الترهات. ألم تسمعو، أيها الصم البكم، لخطاباتي التاريخية؟ فقد تحدثت، في خطابات مسجلة، طيلة حياتي السياسية المديدة، أربع مرات، ستجدون ثلاثة على اليوتيوب، والرابعة التي زعزعت فيها البرلمان تم حذفها لخطورتها على الأمن القومي العالمي. أما خالد، فماذا قال، في مداخلته، حتى ينال كل هذا الإعجاب؟ هل تصدقونني، يا سادة؟ أقسم أنني لم أفهم شيئا مما تلفظ به. صراحة، لا أستطيع فهم بشر يصفق لمجنون يقول كلاما لم أسمع به قط في حياتي الطويلة المديدة. فعندما سمعته يقول " السياق" ضحكت حتى بدت نواجدي، هل نحن في البرلمان أم في المنزل ننظف؟ أما الطامة الكبرى فهي كلمة " الكرامة"، ما هذه الألفاظ الغريبة؟ ألم تسمعوا فقد تحدث عن التجارة؟ مضحك حقا. أعرف تجارة الأبقار والأغنام والأصوات، ولكن ما معنى " تجار المآسي"؟ ومامعنى "الأوكسجين"؟ ما هي البرامج؟ ماذا يقصد ب"تدبيريا"؟ كيف " غائرة"؟ ما علاقة الجبل بالقانون؟ ما " الماء المهدور؟… أيها السادة: اكتبوا اسمي الشريف كاملا على قناة اليوتيوب واسمعوا لكلماتي العميقة واستمتعوا بالفكر والفلسفة والفصحى. كفاكم إجلالا وتعظيما لشاب لم يجرب عدد الأحزاب التي ترشحت باسمها، ولم يحكم عدد العقود التي قضيتها في الجماعة والبرلمان معا. عودوا إلى رشدكم، وحافظوا على إرث وتراث وتقاليد أجدادكم. لا تحدثوا، في السياسة، بدعا منكرة. لا تسألوا عن المردودية والإنجاز والتنمية. اسألوا عن عدد الدجاج والخرفان التي شويتها وقدمتها صدقة جارية لكل من صوت لصالحي منذ أربعة عقود، والعداد ما يزال يعد. هل يستطيع " أوردوغانكم" أن يفعل كل ذلك؟ هذا هو السؤال. وأخيرا، رجاء قولوا له : أستحلفك بالله كفاك فقد أوشكت عن " طرطقة" مرارتي. أتريد أن تدفعني لإعتزال السياسة؟ هذا مستحيل. إن خروجي من الرئاسة والبرلمان يعني موتي المحقق. لا أريد أن أموت قبل أن أكون وزيرا…