تأملات في مسؤولية "الحكيم" و الحاكم والمحكوم عن الانحطاط الجذري "يرتكب الآباء جريمة في حق أبنائهم حينما لايتركون لهم فرصة للاصطدام بجدران العالم الصلبة" الزاهيد مصطفى "التربية هي أن تقسو على أبنائك بحب، والتعلم هو أن تحبهم بقسوة" الزاهيد مصطفى أنا شخصيا لم أرى في الصورة أستاذا يتعرض للإهانة، بل على العكس من ذلك رأيت صورة الدولة بحاكميها ومحكوميها: /عقلها/قيمها/مستقبلها/أسسها…،ما يكونها ويضمن لها الاستمرارية، هي التي كانت تسحل في الأرض تهان وتدمر وتتآكل وتعنف وتداس وتنهار، أما المعلم فهو ليس معطى واقعي، أو جسم بالمعنى المادي، إنه مفهوم نبيل، و تصور وصورة ستبقى دائما نبيلة بالمعنى السقراطي والأفلاطوني، يمكن لأي كان أن يملأها بالمعنى المادي. وعليه فإن من تم سحله بنظري هو في الأخير نسخة من المعلم وليس المعلم . من عليه الخوف إذن؟ أكيد ليس المعلم، بل المغاربة جميعا هم المعنيون أكثر بالخوف، وخاصة الذين يشاهدون في صمت مريب، ويكتفون بالتعاطف الوجداني الذي لا يتطور لإنجازات لها أثر في الواقع وعلى السلوك فهم من يجب أن يتخوف أكثر من المستقبل، لأنهم من يريدون ويرغبون وينفقون ويسعون إلى تأمين مستقبل أبنائهم ولو كان ذلك بالسعي وراء أكثر الأوهام فضاعة، وخاصة فكرة "النجاح بالمعنى الليبرالي المتوحش-، لكن هذا المستقبل الذي يسعون إليه وإلى تأمينه بشكل فردي ينظرون إليه اليوم بأم أعينهم وهو يتعرض لعملية تدمير جماعي نتيجة سيطرة الجمهور والحشد وهيمنة قيمه، والنتيجة أنه ليس هناك مستقبل آمن ومطمئن، بل المستقبل هش وغير واضح المعالم. لا يجب كذلك أن نركز اللوم فقط على هذا "الوضيع في الفعل والتصرف"، و الذي قام بإسقاط فائض كبته وتفريغه على معلم لطيف ووقور المظهر والخلقة يكافح من أجل اللقمة والأجرة والأسرة"، فالوضيع هنا أي المعتدي ضحية أيضا، لكنه مسؤول عن وضعه وعن انحطاطه. تقتضي شجاعة الموقف إن كان لازال لدينا في هذا الوطن موقف، وإن حصل و بقي لدينا من يسمع المواقف عوض الضرب على الطبل مع الجوقة، بأن نقول بوضوح أن المسؤول الأول هنا وبشكل واضح على هذا العنف هو من أفرغ المؤسسات التعليمية من الثقافة ومن السياسة، وكما قال المفكر عزيز لزرق من أفرغها من الحلم. ماذا يوجد اليوم في المدارس وفي قلب الأسر وعلى موائد الطعام وفي المقاهي والساحات العمومية؟، هل توجد أحلام كبيرة لدى المغاربة كما كنا في السبعينات والثمانينات، لا أعتقد !، لدينا فقط اليومي نأكله ونتآكل معه ويأكلنا معه في قضايا نجترها يوميا من قبيل:"متى ستلعب الريال والبارصا؟ نحن البارصويون هزمناكم، والرياليون يردون نحن انتصرنا عليكم/بس بس الزين / أحححح على ساطة/دبرت على واحد البوغوس/ عرفتي جيب النقطة بأي طريقة/ضرب الكاميلة حسي مسي/ الإستعراض اليومي للأسلحة البيضاء ومشاهد العنف/حصر الآباء لوظيفتهم في المأكل والملبس والمصروف اليومي للأبناء واستعراضهم أيضا لذلك….."، هذه بعض من نقاشاتنا وتفاهاتنا اليومية. المسؤول أيضا هو وجود رجال تعليم/أجراء يناقشون مع تلامذتهم إخفاقات وانتصارات البارصا والوداد والرجاء البيضاوي…، ويراهنون مع بعضهم البعض على من سيفوز؟ ( مع خالص التقدير للأطر التي لازالت تؤمن بصناعة الفرق وبأن هناك حلم نبيل يجب تجسيده)؟. المسؤول أيضا هؤلاء الأجراء والأجيرات الذين صار همهم الأساسي هو جمع المال، -وأنا هنا لا أعمم- ففئة عريضة صارت المؤسسة بالنسبة إليها مكانا لجلب زبناء لحصص الساعات الإضافية وخاصة تلك الموجهة لتلامذة الأقسام المسندة كرها، وإن كان ذلك على حساب قيم التعليم النبيلة وعلى حساب الرسالة، وهناك من يأتي للمؤسسات للبحث عن تعويض عن مراهقته المتأخرة مع طفلة كان عليه أن ينظر إليها نظرة الأب أو على الأقل نظرة المربي !!!، وقد كان التهاون في هذه النقط مثيرا للإستغراب من البعض الذي وجد لها عشرات الآلاف من التبريرات بحيث تم اعتبارها –دعما تربويا يعوض النقص الحاصل في المؤسسات- دون أن ننتبه إلى أن براغماتية العلاقة التي تجسدها هذه الساعات الإضافية ساهمت في تكوين تصور جذري ومنحط قلب الصورة للمعلم من كونه ذاك الذي يعطي ما لا يمكن أن يشترى بالمال، إلى ذاك الأجير الذي يأخذ فقط ويبيع ويتاجر في ما لا يقبل التجارة. فانحط قدره ومكانه لدى المجتمع لصالح أبطال جدد يجسدهم النجوم والأيقونات ولاعبي كرة القدم وكذلك رؤساء عصابات المافيا الدولية ومتاجري الدين في القنوات الطائفية أو في الواقع…،بل يصل الأمر ببعضهم أحيانا إلى التهريج والتشجيع على كل أشكال الاحتيال والغش والحط من الكرامة شريطة الحفاظ على زبنائه، والدولة تعي ذلك وتراقبه في صمت رهيب لا يمكن تفسيره إلا بشيء واحد:"اتركوهم ينشغلون بالمال لكي يبتعدوا عن السياسة والثقافة والمثل"، في قلب هذه المدينة التي سماها الأستاذ عزيز الحدادي بالمدينة الجاهلة: أين الحكيم وأين الحاكم؟. الحاكم غير مكترث، إنه منشغل بالأمن والكرسي والمنصب والثروة، و"الحكيم" منشغل أيضا بشيء واحد ووحيد أن يبرر وينمق ويجمل صورة الحاكم أو المرتبطين به، والمنتفعين من شبكات الريع!، لذلك يعم الجهل في السياسة والثقافة وهذا هو الشر والانحطاط، والسؤال المطروح هل لازالت هناك إمكانيات يمكن للمربي بواسطتها أن يربي؟ الجواب عند الحكيم عبد الله العروي في مفهوم الدولة قال : الدولة مربية المربين، لكن من يربي المربي؟ "الحكيم" والحاكم مفلسان تماما : وهما المسؤولان بالأساس عن التربية، فالحاكم ينفذ والحكيم يستشرف ويقترح، لذلك لا محيد عن الثقافة، ولا محيد عن تثقيف السياسة والسياسي وإعطاء الكلمة للحكيم النبيل، التربية تحتاج للقسوة، للقسوة التي تمارس بحب، هل نحن في حاجة اليوم إلى القطط لنتعلم من سلوكها الطبيعي ما تفعله حين تخاف على أبنائها جميعا؟ نعلم أنها تأكلهم! ألم نعد قادرين على أكل أبنائنا بدافع الحب والخوف؟، صراحة لم نعد كذلك، وهذا يدعوا للتشكيك في كوننا الحيوان العاقل أو الثقافي، مادامت القطط تجيد التصرف في وضعيات الخطر ونحن نشاهد مشدوهين. أعتقد أن النواح الذي صاحب هذا الفيديو صاحب أيضا الاقتطاع من الأجور، وحالة الإعفاءات والاعتقالات الأخيرة التي تمت بشكل ملفق والأحكام القاسية التي تصدر حاليا في حق النشطاء والتضييق على الحريات بهواجس لا مبرر لها . يعتقد حكام المدينة الجاهلة أن الصمت على حالات العنف اليومي في المؤسسات الإستراتيجية للتربية خاصة في هذه الظروف –المدرسة /جمعيات المجتمع المدني/الأحزاب/المسجد…- والإعداد والتأهيل للأفراد وتعويدهم على الحياة المدنية والسلوك المدني سيعزز "لدى الرعايا" الإحساس بالخوف والحاجة الى الأمن وإلى تمجيد حكماء المدينة الجاهلة وحكامها؟، لكنهم يتناسون حقيقة تاريخية وهي:أن العنف كلما تجاوز الحد الطبيعي له صار سلوكا مستقلا بذاته، يهكل نفسه وينظمها مثل جميع الأنساق الثقافية الفرعية التي تبدأ صغيرة، لكنها سرعان ما تستقل بذاتها فتصبح في نزاع مع الثقافة الأصلية، ويكفي أن نتأمل تكون الطبقات الصخرية عبر الأزمنة الجيولوجية من الترسب الذي يبدأ صغيرا إلى أن تصير طبقات مستقلة بذاتها، وهو ما يقع أيضا في الوضع البشري، كالجماعات المنغلقة على الخطاب الهوياتي المتمركز وما تلعبه لاحقا في تعزيز نزعات الإنفصال عن الدولة الوطنية، هو نفس الشيء يقع حينما نعتقد أن انتشار العنف يؤدي إلى تعزيز الحاجة إلى الأمن ورجاله وهي نظرية كلاسيكية انتهت مع العصور الحديثة. الجواب اليوم على ما وقع، لا يحتاج فقط للإدانة الأخلاقية وللمطالبة الرومانسية بتحقيق العدالة ونزع الاعتراف بالمعلمين وبدورهم، بل الخطر كله يأتي من هذه العواطف الجياشة، إنها أصل لكل شرورنا ومآزقنا، الجواب اليوم يحتاج صدمة/أزمة/ بالمعنى الحقيقي للكلمة على المستويين السياسي والعلمي والثقافي… يكون الخروج منها مشروط بوضع أهم الخيارات الكبرى والتي يجب أن تكون ملزمة للجميع، كما تكون بمثابة برنامج عمل متكامل يحدد بشكل واضح الحدود بين القانون واللاقانون/بين الحق والواجب/بين المسؤولية والحرية/بين التربية والعنف… ما سلف لا يمكنه أن ينسينا أنه في تعليمنا رغم كل التدمير الذي تتعرض له المدرسة والمجتمع و كل القيم المدنية وكل الروابط التي تسمح لنا بالعيش "بالمعية مع بعضنا البعض"، بأنه لازالت هناك إمكانيات للمقاومة يمارسها الجسم الإجتماعي بشكل قسري وطبيعي، وهذا غير كاف نهائيا في غياب المؤسسات المعقلنة والمنظمة والتي تحركها سياسات عمومية واضحة، فهذا الجسم هنا يكون شأنه في ذلك شأن كل جسم مصاب بفيروس قاتل، فهو يستمر في المقاومة إلى آخر لحظة، لكن هذه المقاومة تبدو في حالات المرضى بداء فقدان المناعة المكتسبة مثلا هشة، وحالنا هنا يشبه حالة مريض بهذا الداء في سنواته الأخيرة، حيث يكون جهاز مناعته قد صار هشا إلى درجة أن أعراض المرض تطفوا بشكل لا يمكن إخفائه. فماذا يمكن للحكيم النبيل والحاكم والمواطن إ، وجد تعويضا عن المحكوم أن يفعلوه في هذه الحالة التي تعتبر فيها المسؤولية مشتركة لكنها على الحاكم والحكيم النبيل بدرجات متفاوتة؟ ملاحظة: عن لفظ "الحكيم" الموضوع بين مزدوجتين، أقصد هنا بالضبط الخبراء الذين صاروا اليوم أهلا للقرار في هذا البلد وصار لهم الرأي الفصل تحت مسمى الخبرة والتخصص، بينما أهل الثقافة والفكر النظري والمستشرفون للمستقبل بدون انحياز براغماتي في جامعاتنا ومجتمعنا تخرس أصواتهم وأقصد بهذه الفئة الأخيرة المثقفون الحقيقيون. *الزاهيد مصطفى : أستاذ الفلسفة بسوق السبت