لا يثق الناس في الإحصائيات الرسمية في دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط، وهو موقف يرتبط عموما بضعف الثقة في المؤسسات بسبب الاستبداد وشيوع الفساد وانعدام حقوق المواطنة المتعارف عليها في الدول الديمقراطية. و يعتبر كثيرون أنّ الإحصائيات تهدف إلى تبرير السياسة التي ستنبني عليها، ما يجعلنا نعتقد بأن الرسالة التي تمرّ عبر هذه الأرقام المعلنة في هذه الظرفية بالذات، والتي هي أبعد ما تكون عن البراءة خاصة فيما يتعلق بالأمازيغية، قد يكون هدفها تسويغ التوجه الرسمي فيما يخص القانون التنظيمي للغة الأمازيغية الرسمية. وهو التوجّه الذي يجد صعوبة في التفكير في اللغتين الرسميتين بمنطق المساواة المبدئية، الذي هو المنطق الوحيد المرسّخ للوطنية الحق وللمواطنة الفعلية معا. يفسر هذا بعض جوانب النقاش الدائر حول المسألة اللغوية بعد إعلان بعض نتائج الإحصاء الرسمي الذي أجري خلال سنة 2014، وهو الإحصاء الذي سبق للعديد من الفاعلين المدنيين الذين واكبوه أن ندّدوا بالطريقة التي يتم بها، وشككوا في مصداقية ونزاهة العديد من القائمين عليه ميدانيا. فسواء تعلق الأمر باللغة الأمازيغية أو باللغة العربية، فإن الإحصائيات المعلنة تتناقض مع معطيات سابقة عبرت عنها الجهات الرسمية نفسها أو ظهرت في الدراسات التي أجريت قبل هذا التاريخ. فالبنسبة للأمازيغية سبق للإحصاء الرسمي سنة 2004 أن أعلن رقم 28 في المائة نسبة السكان الناطقين باللغة الأمازيغية في المغرب، وهو رقم بغض النظر عن مدى صحته أو دقته إذا أضفنا إليه معطيات وزارة التربية الوطنية التي أعلنت سنة 2012 عن أن مليون تلميذ قد استفادوا من تعلم اللغة الأمازيغية في المدارس، واعتبرنا معطى آخر هو أن الأمازيغية لم تكن متواجدة في استمارة الإحصاء الرسمي لسنة 2004، ولم تكن موضوع سؤال القائمين بالإحصاء ميدانيا حيث أغفلها الكثير منهم إما عن قصد أو بسبب عدم التنصيص عليها بشكل واضح في الاستمارة، وأن هذه اللغة قد وجدت عكس ذلك في استمارة إحصاء 2014، حيث تم تدارك الخطأ السابق، مع الإبقاء على الالتباس بالخلط بين اللهجات المحكية والأمازيغية الكتابية المدرسية، في الوقت الذي تم فيه بوضوح التمييز بين الدارجة المغربية وبين العربية الفصحى. وإذا أضفنا كذلك معطى آخر وهو تزايد عدد السكان في عشر سنوات، حيث لا يعقل ولا يُتصور أن من بين مئات آلاف السكان الذين ولدوا في هذه العشرية الأخيرة لا أحد فيهم ناطق بالأمازيغية، وإذا اعتبرنا كذلك تزايد قيمة الأمازيغية لدى الناطقين بها منذ سنة 2001، التي عرفت تراجع مشاعر "الحكرة" والميز، وانبثاق شعور قوي بالاعتزاز بالانتماء إلى الأمازيغية لدى عموم السكان الناطقين بالامازيغية، ولدى كثيرين من غير الناطقين أيضا، والذين كانوا يعانون من مركب نقص مبعثه تنكر المؤسسات لممتلكاتهم الرمزية، وخاصة بعد أن حظيت هذه اللغة بوضع الترسيم في دستور البلاد سنة 2011، وهو المعطى الذي من شأنه أن يرفع عدد المواطنين الذين سيصرحون بوضوح للقائمين بالإحصاء بلغتهم الأم. وإذا أضفنا إلى هذه العوامل الأربعة عنصرا خامسا هو طبيعة القائمين بالإحصاء وتكوينهم ومهنهم، حيث هي عوامل تساهم في التأثير في نتائج الإحصاء في موضوع اللغات بصفة خاصة، إذ أنّ أساتذة اللغة العربية مثلا وأساتذة التربية الإسلامية يتواجدون بأعداد كبيرة ضمن القائمين بالإحصاء، فسيكون من الصعب أن نتوقع اهتماما منهم باللغة الأمازيغية، بسبب تأثير الإيديولوجيا العربية والوعي المحافظ الرافضين للاعتراف بالتعددية اللغوية والثقافية والساعيين إلى نوع من التنميط على أساس الهوية الأحادية للمجتمع. هذه العوامل كلها ينضاف إليها العامل الأكثر تأثيرا وهو توجهات الدولة وما تريده من الإحصاء، وهو ما يجعلنا نعتقد بأن إعلان الأرقام المذكورة (ومنها اعتبار أن عدد الناطقين بالدراجة المغربية هم 90 في المائة)، يهدف إلى تبرير سياسات يتمّ التحضير لها. وبالنسبة للغة العربية فالنسبة المعلنة لعدد المتمكنين من اللغة العربية من المتمدرسين ، أي من الذين دخلوا المدرسة، والتي هي 99,4 في المائة، (نسبة تذكرنا بنتائج الاستفتاء حول الحكام العسكريين في شمال إفريقيا والشرق الأوسط)، هذه النسبة تتعارض مع الدراسة الدولية التي أعلنت في شهر مارس من السنة الجارية، والتي تداولتها الصحافة الوطنية على نطاق واسع، وأثبتت أن "التلاميذ المغاربة من المستوى الابتدائي قد احتلوا الرتبة الأخيرة في القراءة باللغة العربية الفصحى من بين 48 دولة مشاركة في الدراسة." و"أنّ 62 في المائة من تلاميذ السنة الثانية ابتدائي لا يستطيعون حتى فهم سؤال مكتوب بالعربية". كما لا يفهمون ما يقال لهم بهذه اللغة، وأن مستوى التلاميذ في اللغتين العربية والفرنسية وصل إلى درجة "كارثية" من التدني، وهو ما يحيلنا أيضا على الطريقة التي أجري بها الإحصاء سنة 2014 وطبيعة القائمين عليه. فمن الواضح أن نتائج الإحصاء فيما يخص اللغة العربية يتناقض كليا مع واقع الحال، ومع ما يؤكده رجال ونساء التعليم من تدني الإلمام باللغة العربية بدرجة كبيرة حتى لدى تلاميذ الباكالوريا الذين بلغوا 18 سنة، وقضوا سنوات طويلة في تعلم هذه اللغة بعدد مرتفع من الساعات في الأسبوع. وهو ما يجعلنا ننبه إلى خطورة نتائج الإحصاء الرسمي الذي يقدم معطيات مطمئنة لكنها تخفي واقعا مترديا ومأزوما يتطلب حلولا جذرية. ويمكن للقارئ الكريم أن يطلع على مقالي "اللغة العربية في يومها العالمي" والذي أوضح فيه أسباب ضعف الإلمام باللغة العربية وكذا مشاكل تدريسها. لقد وضع الإحصاء الرسمي الدارجة المغربية في الصدارة بنسبة تقرب من تسعين في المائة من المغاربة، وجعل اللغة العربية في المرتبة الثانية بنسبة 99 في المائة من الذين ولجوا المدرسة، وبالنظر إلى استمرار ارتفاع نسبة الأمية وإلى تدني معرفة المتمدرسين بهذه اللغة، فإن هذا الرقم يصبح بالنسبة لتعداد السكان أقلّ بكثير من الثلثين بعد نصف قرن من التعليم المعرّب. ووضع الإحصاء الرسمي اللغة الأمازيغية في ذيل القائمة بنسبة تقرب من ربع السكان، فهل هو تمهيد للتمكين للدارجة المغربية، وهل هو تسويغ مسبق للنزوع الملاحظ لدى المسؤولين منذ 2011، والذي يميل إلى عدم المساواة بين اللغتين الرسميتين، ما يعني استمرار الميز رغم الترسيم ؟ وهل هو محاولة للالتفاف على الأمازيغ باختزالهم في نسبة الناطقين بعد خمسين سنة من التعريب لتفادي الاعتراف بأنهم الأغلبية الساحقة من الشعب المغربي. إنها أسئلة ستحمل لنا الأيام القادمة إجابات واضحة عنها، لكن مهما كانت الإجابة التي ستكشف عنها مضامين القانون التنظيمي للغة الأمازيغية، هل هي مضامين تنتصر للمساواة أو تستمر في تكريس الميز بين المغاربة، فإن المبدأ الذي لا يمكن تناسيه هو أن كل لغة هي صنيعة السياسات العمومية المعتمدة، فليست هناك لغة راقية بطبيعتها ولا لغة ضعيفة في ذاتها، ولعل اهتمام المغاربة بلغاتهم الوطنية في التعليم والإعلام والحياة العامة، سيجعلها تقوم بوظائف عديدة لم تكن تقوم بها من قبل، ما سيضمن لها النماء والتطور، كما سيضمن تقوية النسيج الوطني الوحدوي، المتضرّر من مختلف أشكال الميز والظلم والتهميش.