أما قبل: يعتبر صلاح الإنسان شرطا لصلاح الحياة والكون، ولا صلاح لهذا الإنسان إلا بتربية صالحة وتنشئة سليمة تحفظ فطرته وتصونها من الطمس وترفعه إلى مستوى التكريم، يتلقاها في حضن الأسرة ودفئها. من هنا حدد الإسلام للزواج ضوابط وشروطا، تقوم على الصلاح والخلق في اختيار الزوجين، فرغب في اختيار ذات الدين، مثلما رغب في اختيار من يُرضى دينه وخلقه، تجنبا لفتنة وفساد كبيرين في المجتمع. ومعلوم أن تفاهم الأبوين - مهما كانت مداركهما ومعارفهما في مجال التربية متواضعة- يساعد على تربية الأبناء وتنشئتهم بشكل سليم. فطرة تصان: التربية سمو وكمال: التربية في اللغة نمو وزيادة، وفي الاصطلاح تعني السمو بالنفس نحو الكمال البشري الذي أودع الحق سبحانه متطلباته في الإنسان. والتربية اكتشاف لمؤهلات الإنسان وتنمية خصال الخير فيه وتوجيهها لبناء شخصية سوية جسما ونفسا وروحا وفكرا. ومتى فشلت العملية التربوية أو زاغت فسد الإنسان وزاغ بسلوكه العام عن الجادة. التربية فن يقوم على قواعد كثيرة، نذكر بعضها أو أهمها، مع التذكير إلى خصوصية النفس البشرية التي تتميز بالتنوع، فما ينجح في حالة، قد لا يعطي نفس النتيجة في حالات أخرى، وقد لا يكون الخلل في القواعد بقدر ما يكون أحيانا في ترتيبها أو توقيتها أو حجم التعاطي معها من حيث الكم، لهذا تتأسس التربية على الحكمة وسعة الصدر والاعتدال في كل شيء: حب دون دلع، ولين دون قسوة، وحزم دون تسلط، وحرية دون تسيب. ولتربية الأبناء قواعد يُستعان بها، ومنها: 1. الدعاء والتضرع لله تعالى: يداوم الأبوان على الدعاء بأن يصلح سبحانه الأبناء وينبتهم النبات الحسن، وهذا هو حال الأنبياء والمرسلين والصالحين كما يحكي ذلك القرآن الكريم، قال تعالى على لسان امرأة عمران: "وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم"[1]، وقال تعالى على لسان سيدنا زكرياء عليه السلام: "هنالك دعا زكرياء ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء"[2]، وقال على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام: "رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء"[3]، وعلى لسان عباد الرحمن يقول سبحانه: "ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما"[4] وعلى لسان كل مؤمن معترف بأنعم الله عليه، يقول جل جلاله: "رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي، وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين"[5]. 2. التوافق بين الأبوين: من العوامل الحاسمة في تربية الأبناء توافق الأبوين وتكاملهما في المواقف والتدخلات، فعلى قدر ما يتحقق من انسجام بينهما تنجح العملية التربوية؛ بالمقابل تختل العملية عندما لا يتفق الأبوان في تقييم سلوك أو مواقف الأبناء، فتتعدد المراجع ومصادر القرار، وتتوفر فرص التسيب التي يستغلها الأبناء في ممارسة ما يبدو لهم مقبولا ما دام الكبار الأبوان لم يتفقا حوله. ومما يجدر التنبيه إليه تفادي حسم خلافات الأبوين عموما أمام الأبناء، لاسيما ما يتعلق بسلوك الأولاد وتصرفاتهم، حفاظا على هيبتهما وسلطتهما التربوية التي قد تخدش عندما يظهر النقاش خطأ أحد الأبوين؛ بل على العكس من ذلك يجب أن يظهر الأبوان كل التقدير والاحترام لبعضهما البعض، ويستفيض بين حين وحين كل منهما في إظهار الخصال الحميدة للطرف الثاني للأبناء. 3. تقدير الأبناء واحترام كرامتهم: التربية الناجحة استشراف للأحسن، لذا يجب تفادي إصدار الأحكام السلبية، تجنبا للإحباط، فمن تعود على سماع أحكام من قبيل: أنت فاشل، أنت لا تصلح لشيء، أنت لا يعتمد عليك...اقتنع أنه لا يمكن أن يحظى بثقة أبويه مهما فعل، فيكون ذلك مدعاة للاستسلام والفشل. والصواب أن يشعر الأبوان الأبناء بثقتهما فيهم وفي قدراتهم مراعاة لمشاعرهم وحفاظا على كرامتهم؛ فلا بد من التمييز بين الحكم على تصرف أو سلوك، وبين الحكم على صاحب ذلك التصرف أو السلوك، ففرق كبير بين أن يقول أحد الأبوين مخاطبا ولده: أنت مخطيء فاشل، وبين أن يقول: هذا تصرف غير موفق. 4. إظهار الحب والمودة: لا شك أن جميع الآباء يحبون أبناءهم، وإنما يختلفون في طريقة التعبير عن ذلك الحب؛ غير أن شعور الأبناء بحب آبائهم لهم عنصر حاسم في بناء الثقة بين الطرفين، ضمانا لنجاح التربية، وتأهيلا للأبوين ليكونا مرجعين معتمدين من طرف الأبناء. فأساس التربية هو الإقرار بالأهلية، وقد لا ينتبه الآباء إلى رأي الأبناء فيهم والصورة التي تشكلت في وجدانهم عن آبائهم، وثقة المريض في الطبيب حاسمة في تقبله للعلاج. ولعل أبلغ ما يعمق حب الأبناء لآبائهم المداعبة والملاعبة، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة البليغة في مداعبة أحفاده، يقول معاوية رضي الله عنه: "من كان له صبي فليتصاب له". 5. متابعة مراحل النمو ومراعاة متطلباته: ينمو الأبناء وفق مراحل عمرية متنوعة، تتنوع معها احتياجاتهم المادية والمعنوية، تفرض على الآباء تتبعا دائما وواعيا لهذه المراحل، وقياما بما توجبه كل مرحلة، ومن الخطإ معاملة المراهق كما كان يعامل وهو طفل، فلكل مرحلة معاملتها الخاصة، وفي الحديث النبوي: "داعبه سبعا، وأدبه سبعا، وصاحبه سبعا" ، وهذا يعني أن لكل مرحلة عمرية خصائص ومتطلبات، يكون بناء شخصية الأبناء سويا سليما على قدر ما تحقق من نجاح في إيفاء كل مرحلة ما تحتاجه، دون إفراط أو تفريط. 6. التشجيع والتنويه: يعتبر التحفيز من العوامل المساعدة على بذل المزيد من الجهد سعيا لتحقيق نتائج أفضل، فمتى توفق الأبناء في دراستهم بشكل أخص وجبت مكافئتهم، ولو بعبارة تعبر عن الرضا والتقدير، إذا لم يكن بجائزة أو هدية، تؤكد اهتمام الأبوين بهم وبمجهوداتهم، ضمانا لاستمرارهم على نفس النهج؛ فمنظومة تربية تقوم على التوبيخ والزجر وترصد الهفوات فقط فاشلة لا تبني ولا تكون الأجيال. 7. الاهتمام بقضايا الأبناء: للأبناء عالمهم وقضاياهم وانشغالاتهم، ومن تمام المسؤولية الانفتاح على هذا العالم، وتشجيع الأبناء لطرح مشاكلهم، تبادلا للآراء، واقتراحا للحلول. ومن الخطإ تجاهل القضايا التي يود الأبناء إثارتها مع آبائهم، مهما بدت في نظر الأبوين تافهة لا تستحق الاهتمام؛ وعين العقل أن ينظر إليها من زاوية الأبناء وإعطائها ما تستحق من الوقت في جو من الحوار الهادئ، وبتوجيه هادف، ينمي إدراك الأبناء، ويوطد ثقتهم في آبائهم. وكل انشغال عن الأبناء أو تجاهل لمشاكلهم يدفع للبحث عن جهات أخرى لتداول ما يشغلهم، وقد تكون الرفقة السيئة هي الجهة المحتضنة والموجهة، ومن ثم يخطو الأبناء الخطوة الأولى نحو الانحراف. 8. من الأخطاء يتعلم الناس: مع التوجيه ودوام النصح لا بد من توقع الأخطاء، والحكيم من يربي بالخطأ، ويبني بالزلة، في توجيه سديد من غير إهانة أو تجريح، أو مواجهات حادة تفقد الآباء صوابهم وقدرتهم على تطويق المشاكل، تدفعهم لأساليب الضرب أو الشتم القاسي اللاذع اللذين يضيعان وظيفة الأبوة بما هي حلم وسعة صدر وبعد نظر. 9. مراقبة في غير حصار: من تمام مسؤولية الآباء مراقبة أبنائهم سلوكا ورفقة ودراسة...، على ألا تتحول هذه المراقبة إلى حصار يعد على الأبناء أنفاسهم، ويشعرهم أن الرقابة الأبوية تطاردهم في كل وقت وحين، مما يولد لديهم شعورا بالارتباك وعدم القدرة على أية مبادرة مهما كانت بسيطة، بل يجعلهم موضوع سخرية بين أقرانهم. إنما يحتاجه الأبناء هو الحرية القائمة على المسؤولية والمتابعة الرحيمة. 10. الاستقلال المالي: يتعلم الأبناء استعمال النقود والتعامل بها لشراء حاجياتهم الخاصة، تنمية للجانب المالي في شخصيتهم، وتربية لهم على ترشيد المال، مع ما قد يكون من أخطاء تعتبر مفيدة؛ على أن الشح على الأبناء وعدم صرف مبالغ شهرية أو أسبوعية معقولة، يدفعهم للسرقة بطرق متعددة، قد لا يفطن لها الآباء دائما: (ادعاء الحاجة للوازم دراسية، بيع حاجياتهم وزعم ضياعها..). 11. القدوة: التربية بالحال أبلغ من المقال، ومن لا حظ له مما يطالب به غيره عموما وأبناءه خصوصا، لا صدى لصوته، ولا أثر لحركته، ففاقد الشيء لا يعطيه، وما أبلغ قول الشاعر: لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إن فعلت عظيم إن أخلاق الأبناء من أخلاق آبائهم، وقد يعود فشل تربية الأبناء إلى فشل الآباء في تقديم نموذج عملي صالح ومؤثر في نفوس الأبناء. إن أهلية الآباء الحقيقية ومصداقيتهم تستمد من نموذجيتهم التربوية كما يحدد ذلك القرآن الكريم في سورة لقمان، إذ سحبت الوظيفة التربوية من الأبوين متى زاغا عن الجادة، وأمر الأبناء بالبحث عمن يتخذ دليلا ومصحوبا مربيا صفته الصلاح والاستقامة، يقول الحق سبحانه: "وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما، وصاحبهما في الدنيا معروفا، واتبع سبيل من أناب إلي" [6]. خلاصة: تعتبر تربية الأبناء من أوجب الواجبات على الآباء، وبحكم ما تتطلب من جهود من جهة، وما يترتب على نجاحها من خير يمتد عبر الأجيال من جهة ثانية، خصها ديننا الحنيف بعناية متميزة، واعتبر تربية الأبناء عملا صالحا يستمر خيره وثوابه إلى ما بعد وفاة الأبوين، وفي الحديث النبوي يقول صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث..." فعد الولد الصالح من هذه الثلاث: "وولد صالح يدعو له" . وتزداد تربية الأبناء صعوبة بقدر فساد المنظومة التربوية السائدة في المجتمع، حيث يواجه الآباء تيارا عارما من الانحراف، ومن خلال واجهات متعددة: وسائل إعلام غازية للقيم وحاملة لثقافة التفسخ، مدرسة تخاصمت مع الفطرة، وراحت تطمسها بأساليب ممنهجة، وغزو ثقافي يقصف بلا هوادة باسم الفن تارة، وباسم الحريات و"القيم" الكونية أخرى تخريبا للمروءة وتطبيعا مع الفاحشة،... ما يفرض على الأسرة سد فراغ باقي أطراف العملية التربوية، بل ومقاومة غزوها وعدوانها اليومي على فطرة الأبناء. إن تربية الأبناء مسؤولية يُسأل عنها الأبوان، ويبقى عليهما استفراغ الوسع في ما كُلفاه من رعاية، على أن التوفيق بداية ونهاية من الحق سبحانه، لكن حكمته اقتضت الأخذ بالأسباب، ومنها بناء الأسرة وفق الأسس التي حث عليها ديننا، وإلا فقد حكى لنا القرآن الكريم قصة سيدنا نوح مع ابنه الذي اختار سبيلا غير سبيل الحق فكان من المغرقين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الهوامش: