لقد أضحى العدوان الصهيوني عاديا منتظرا، وفي دورية منظمة بمواعد لا تكاد تخلف، وخلال العقد الأخير استهدِف القطاع ببطش الصهاينة ثلاث مرات: 2008، 2012، 2014؛ غير أن العدوان الحالي يذكر باجتياح جيش الاحتلال لأرض لبنان وصولا إلى بيروت العاصمة صيف 1982 تزامنا مع افتتاح نهائيات كأس العالم لكرة القدم بإسبانيا، اجتياح كان هدفه إجلاء المقاومة الفلسطينية خارج أرض فلسطين، ويومها لم يتعد الموقف العربي مستوى الشجب، عوض تفعيل اتفاق الدفاع المشترك الذي يتأسس عليه ميثاق جامعة الدول العربية. وإذا كان المشروع الصهيوني واضحا، تتنافس من أجل التقدم في تحقيقه القوى السياسية في دولة الاحتلال، بل وأصبح الدم الفلسطيني والتنافس في سفكه وقودا لإنعاش الحياة السياسية على قاعدة "تهويد دولة" الاحتلال، فإن الذي لا يفهم هو الموقف العربي الرسمي؛ فبالأمس القريب، وخلال عمليات الغزو المتكررة لقطاع غزة، كان "قادة" العرب يبررون موقفهم المتقاعس بكون الفصائل الفلسطينية متصارعة وأجنداتها السياسية متباينة، بل سجل التاريخ، كيف أن العدوان على قطاع غزة تم بمباركة النظام العربي الرسمي، وسجل التاريخ كيف انخرط نظام حسني مبارك في التضييق على الشعب الفلسطيني في القطاع، ليس بالإغلاق الممنهج لمعبر رفح، بل بتفجير الأنفاق وإقامة جدار اسمنتي إمعانا في تجويع الفلسطيني لإرغام سلطة المقاومة على الاستسلام والقبول بشروط الاحتلال. اليوم، وفي عدوان 2014، الفصائل الفلسطينية منخرطة في تفعيل اتفاق المصالحة، فما الذي منع هذه المرة النظام العربي الرسمي، ليس من الدعم المباشر والميداني للفلسطينيين، بل ومن الضغط على من يعتبرهم هذا النظام حلفاء استراتيجيين له للحيلولة دون وقوع العدوان وارتكاب المجازر في حق العزل والأبرياء من فلسطينييغزة؟ لماذا لم يتحرك النظام العربي ويحرك دبلوماسيته مشهرا سلاح مقدرات الشعوب العربية والإسلامية؟ لماذا لم نشهد دينامية كالتي حدثت لدعم الانقلاب في مصر؟ لماذا لم يهدد النظام العربي الرسمي بسحب ودائعه في الأبناك الغربية، ويهدد بإيقاف مشاريع الاستثمار في الغرب عموما؟ بل، وفي إطار "أضعف الإيمان"، لماذا لم نسمع بإدانة قوية لهذا العدوان، وفي هذا الشهر الفضيل؟ ألم يخاطب الرئيس المعزول محمد مرسي الاحتلال منددا بالعدوان: "أوقفوا هذه المهزلة". العدوان الحالي على القطاع، كسابقيه يقابل على مستوى النظام الرسمي بتجاهل أو تفاعل يتحاشى في بياناته الشجْبيّة استعمال ألفاظ تُحرج أو "تجرح" الشعور الصهيوني المرهف، حتى إذا وضعت الحرب العدوانية أوزارها "تهافتت" عواصم هذا النظام العربي لتقديم مساعدات لإعمار القطاع، وكأن المسألة وما فيها تخريب مبان ومرافق أو بنية تحتية، أما الانسان الفلسطيني فلا اعتبار له. العدوان الحالي جاء كاشفا فاضحا لنظام عربي رسمي مريض بدنيا وسياسيا، نظام كشفت الثورات العربية سوأته، وأكدت لمن يحتاج إلى دليل أن هذا النظام العربي الرسمي شمولي استبدادي عاض على الحكم وبأي ثمن؛ والثمن طبعا هو عرقلة المشروع التحرري للأمة ووأد حلمها في الحرية والكرامة والعدالة. لقد كشفت الثورات العربية رغم تعثراتها، أن الحكام العرب معزولون عن اهتمامات الشعوب، وهم أبعد ما يكونون عن نبض الشارع، وهم مستعدون لرمي بلدانهم في أتون الاقتتال متى استشعروا الخطر على كراسيهم، ولسان حالهم قول الشاعر: "إذا متُّ ظمآنا، فلا نزل القطر". العدوان الحالي، جاء ليؤكد ازدواجية خطاب الغرب عن الحرية والسلام والأمن وحقوق الانسان، ويؤكد أن الغرب الرسمي فقد قيمته الاعتبارية ليكون طرفا في معالجة التوترات. ويكفي مثالا، الحالة المصرية، فبعد مباركته الغرب الرسمي للانقلاب ودعمه الصامت لمجازره، كيف يصح أن يُعتمد طرفا مدافعا عن حرية وديمقراطية هو من وأدها واغتالها؟ العدوان الحالي، يؤكد أن توقع وانتظار "غضبة" النظام العربي الرسمي غيرة على العرض ودفاعا على المقدسات هو ثامن المستحيلات، إذ كيف يتوقع أن "يثور" هذا النظام في وجه صاحب نعمته وفضل خلوده على العروش؟ لذلك، فإن هذا العدوان جاء ليصحح مسار المشروع التحرري، وجاء ليعيد المبادرة إلى الشعوب متى تسامت مكوناتها وزعاماتها عن الحسابات السياسية الضيقة وهبت تعبئ الشارع العربي للتنديد بمجازر الكيان الصهيوني وفضح تواطؤ الغرب وأدواته من الحكام العرب. العدوان الحالي دليل على وعي الاحتلال بقيمة ما يمثله صمود القطاع وأهاليه لمخططات تركيع الشعوب العربية والإسلامية، وليس الشعب الفلسطيني. العدوان الحالي كسابقيه اعتراف من الغزاة الصهاينة أن غزة أضحت رمزا للتحرر والعزة، كيف لا والقطاع بمحدودية مساحته وخضوعه للحصار برا وجوا وبحرا، لم يستطع الاحتلال أن يحقق اختراقا لجدار صموده وإبائه. لله دَرُّكم أهالينا في القطاع، تقدمون دروسا عملية في مناهضة أبشع احتلال، ولو تعرض نظام عربي لعشر عُشر العدوان الذي تعرضتم لهم خلال العقد الأخير فقط، لرفع الراية البيضاء وهرول للبصم بالعشرة على اتفاق الذل والهوان! ألستم من يقاوم أعتى آلة عسكرية في العالم؟ ألستم من بهرتم العالم وفضحتم تدبير لاحكامة النظام العربي الرسمي ودبرتم شؤونكم بأقل الموارد؟ ألم تدهشوا العالم بأسلوب تعبئتكم للشعب الفلسطيني في القطاع فاحتضن المقاومة وتحمل تبعاتها من خراب، ودمار، وتقتيل، وترويع بأفظع القنابل؟ غزة بأهاليها وقياداتها المقاومة نموذج للاقتداء في التعبئة والانخراط في مشروع ارتضاه الشعب وقبِل دفع فواتيره؛ مشروع تعبوي نجح في غزة العزة، وفشلت فيه أنظمة الاستبداد العربية رغم احتكارها لوسائل التأثير وإقصائها لأي صوت معارض. ولعله من الموافقات اللطيفة أن يتزامن العدوان الحالي وشهر رمضان، فيذكي في القلوب حماسة الصمود باستحضار ما يسّر جل وعلا لنبيه وعباده المستضعفين من بطولات وانتصارات حاسمة، ويذكر الشعوب الإسلامية برابطة الأخوة الإيمانية التي تقتضي النصرة، إن لم تتيسر في مستواها المادي، فلا أقل من التظاهر والاحتجاج ورفع الصوت بإدانة العدوان وصالح وصادق التضرع والدعاء أن ينصر القهار الجبار عباده المستضعفين المضطهدين، وأن يحرر القدس والأقصى إيذانا بفجر يوم عزة وتمكين لعباده الصالحين وقطع دابر الذين ظلموا وتواطأوا وتآمروا. "ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله". والحمد لله رب العالمين.