استبقت الوقت ذات يوم إلى حجرة الدرس، فأثارني رسم على الصفحة اليمنى للسبورة، قد أبدع فيه أحد التلاميذ، وصوَّر بخطوط قليلة، جسد امرأة مثير للغاية، فأخرجت من جيبي هاتفيَ النقال، والتقطت لها صورة. ولولا أنها كما وصفت لكم، لنشرتها لتدركوا معي جمال الموهبة التي يتمتع بها ذلك الفتى الموهوب ولكن!! سألت نفسي، كم من المواهب أنعم بها الله عز وجل على بعض عباده، لكنهم أضاعوها، فمنهم من عاش عُمُرَه ولم يلتفت إلى مواهبه، ومنهم من عرفها لكنه استرخس قيمتها في دنيا الناس، ومنهم من صَرَفَها في الفحش والمنكر، فتلقى اللوم والعتاب، ثم انصرف عنها بعد حين. وكل ألئك الموهوبين، قَوْمٌ مُضَيِّعُون، رغم أن العناية السماوية أفاضت عليهم بفضل وكرم، لأنهم لم يحسنوا التعامل معها، إما غفلة أو ازدراءً، وإما وقوعا في فتنة، ولله في خلقه شؤون. تحدَّثَ القرآن الكريم عن هذه المواهب الخارقة، فبين أولا أنها نعمة وفضل، وأنها ثانيا للقيام بمهمة وأداء وظيفة نبيلة، تُقَرِّب الناس إلى ربهم، وتُزَيِّن حياتهم بأنوار الجلال والجمال الإلهي، الذي أفاض على خلقه بقبسات منه. قال الحق سبحانه في معرض ذكر ما أنعم به على داود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ}[1]، وقال في تفسيرها الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: (يخبر تعالى عما أنعم به على عبده ورسوله داود، صلوات الله وسلامه عليه، مما آتاه من الفضل المبين، وجمع له بين النبوة والملك المتمكن، والجنود ذوي العَدَد والعُدَد، وما أعطاه ومنحه من الصوت العظيم، الذي كان إذا سبح به تسبح معه الجبال الراسيات، الصُّم الشامخات، وتقف له الطيور السارحات، والغاديات والرائحات، وتجاوبه بأنواع اللغات)[2]. إنه النموذج النبوي الخارق، يمنحه الله تعالى لواحد من خلقه، ليكون لهم إماما وقدوة، في تسخير تلك المواهب الفاضلة في الخير والنفع العميم، لا في الشر والخبث الذميم. يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى معلقا على قصة داود عليه السلام: (إن اللّه تعالى، قد أعطاه من حسن الصوت، ما فاق به غيره، وكان إذا رجَّع التسبيح والتهليل والتحميد بذلك الصوت الرخيم الشجيِّ المطرب، طرب كل من سمعه، من الإنس، والجن، حتى الطيور والجبال، وسبحت بحمد ربها)[3]. إنها نعم ربانية، ومنح سماوية، تفيض بغير حساب، فيرفع الله بها أقواما ويضع بها آخرين، ولكن أهل الإيمان يدركون من خلالها جلال المنعم، ويلامسون قبسات من نوره العظيم، فيخرون لله ساجدين، مسبحين ذاكرين، يقول سيد قطب رحمه الله تعالى في هذا السياق: (وحين انطلق صوت داود عليه السلام يرتل مزاميره ويمجد خالقه، رجّعت معه الجبال والطير، وتَجَاوب الكون بتلك الترانيم السارية في كيانه الواحد، المتجهة إلى بارئه الواحد، وإنها للحظات عجيبة لا يتذوقها إلا من عنده بها خبر، ومن جرب نوعها ولو في لحظة من حياته!)[4]. إني لأرجو أن يدرك شبابنا هذه الإشارات القرآنية، وأن يلتفتوا إلى تلك اللمسات الفنية، لإدراك بعض أسرار الإبداع الإلهي، وإني لأرجو أن يسائل كل أحد نفسه: ما هي الموهبة التي منحني الله تعالى إياها؟! حينذاك، ستبدأ رحلة أخرى مع الذات، غايتها الكشف عن هذه المواهب في النفس، وحينها فقط، ستبدأ حياة جديدة، تقود إلى السعادة المغمورة في هذا الكيان الإنساني!! والله المستعان الأستاذ : سعيد المنجا / مدينة أفورار السبت 8 ربيع الثاني 1435ه موافق ل: 8 فبراير 2014م