السيناريو نفسه يتكرر والمغرب وحده يخطئ المواعد مع التاريخ، ويا لها من الآم. في هذه اللحظات بالذات ينبغي أن يقوم البعض بمراجعة حقيقية للذات ونقذ جريء ومنصف، لأن التاريخ لا يرحم. مناسبة هذا الكلام هو تداعيات قرار انسحاب حزب الاستقلال من التحالف الحكومي الذي يقوده حزب العدالة والتنمية في شخص أمينه العام عبد الإله بنكيران، وما تقوم العديد من الأطراف من ترويجه من معطيات هي مغالطات في أغلب الحالات. وقبل تناولها حبذا لو نقف قليلا عند الحدث وما سبقه. أود أن أشير إلى أنني ما زلت أتساءل هل اقتنع قادة حزب العدالة والتنمية وإخوان بنكيران في التوحيد والإصلاح بعد بأن المسار الذي اختاروه يوم قرروا الدخول النهائي في أحضان المخزن تحت شروطه كاملة كان انتحارا كبيرا لا يعرف عواقبه في المستقبل إلا الله، أم لا. وها هي ذي بعض من هذه العواقب بدأت تطفو وهاهم لوحدهم يجرون أمام العصفة. وهنا يحق لنا مرة أخرى أن نقف قليلا لنسترجع بعضا من فصول تلك اللحظات والأسابيع بل والشهور التي سبقت يوم التقى بنكيران بالملك، الرجل الطيب كما وصفه هو عشية يوم تعينه، بمدينة ميدلت ليكلفه بقيادة الحكومة التي ستنجز الاستثناء المغربي. من حقنا أن نساءل إخوان بنكيران: هل كان قرار معارضة حزبهم للنزول مع حركة 20 فبراير التي تطالب بإسقاط الفساد والاستبداد قرارا جماهيريا وديمقراطيا أم أنه قرار فوقي فرض وأملي على قيادة الحزب ففرضه على قواعده؟ ثم إلى أي مدى أنجز هذا الحزب قليلا من تلك الوعود التي قطعها على الشعب والتي كان شعارها نفس شعار حركة الشباب الغاضب على كارثة هذا البلد، إسقاط الفساد والاستبداد، بعد كل هذه الشهور التي قضاها في الحكم؟ لن يحارب الحزب ولو جزءا من الاستبداد والفساد. هذا ما تأكد منه الجميع في الداخل والخارج، لأن هذه البلاد كلها مؤسسة وواقفة على هذين المبدأين. لن يحارب الفساد من يشارك في منظومة مبنية أسسها كلها على قيم بعيدة كل البعد عن الديمقراطية والعدالة والحرية. سيساءل التاريخ قيادات العدالة والتنمية وغيرهم من النخب الحزبية والمثقفين الذين ركنوا في زاوية المخزن مؤيدين سلطه ومبررين لانتهاكاته في حق هذا الشعب المسكين سنين وعقود. وسيجل لهم التاريخ أنهم باركوا سياساته القمعية في الشمال والجنوب في المدن والقرى في المدارس والجامعات، وأصبحوا فيما بعد أبواقا له. هذه هي الأخطاء الكبرى التي اقترفها حزب العدالة والتنمية ومعه الكثير من الأطراف والنخب وسيستمر على دربه، لكنه سيستفيق يوما وسيجد نفسه وقد أحرق أوراقا كان بإمكانه أن يوظفها ليشارك في بناء مغرب الحربة والكرامة. أما ما يتعلق بالأزمة السياسة وانسداد أفق إصلاح الإدارة وتشغيل العاطلين والحد من الإجرام والجريمة والقتل والاغتصاب والرشوة والسرقة ... وكل ذلك فما هو إلا نتائج حتمية وطبيعية للأصل. الأصل مباركة الاستبداد والانخراط فيه وتفويت فرص التغيير على هذا الشعب المقهور. أما حزب الاستقلال الذي قرر الانسحاب من الحكومة الحالية لدواعي كثيرة لخصها البيان الرسمي ويحاول بعض قياديه تفصيلها في كتابات وعبر مداخلات في وسائل الإعلام المرئية والسمعية المقروءة هنا وهناك، فهو بصدد تمرير مغالطات خطيرة جدا، لا تختلف بالنسبة لي عن أخطاء العدالة والتنمية الأخطر. ولعل ما يستوقف المتتبع في تبريرات الحزب هو ما أورده البيان بشان استفراد بنكيران وإخوان بالقرار وباقي الأخطاء التي حملهم إياها البيان الذي صدر عن أعلى مؤسسة تقريرية في حزب أحفاد علال الفاسي. ومن المفيد أن نورد الفقرة كاملة التي لخصت أسباب الانسحاب، وهي كالتالي: "... لكن أطراف أخرى داخل التحالف الحكومي أصرت على مواصلة العناد في الاستفراد بجميع القرارات الصغيرة والكبيرة. والاستحواذ على جميع الملفات المتعلقة بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. وإطلاق العنان للخطابات الشعبوية وممارسة الوصاية على الشعب من خلال التحدث باسمه. والتهديد به لممارسة الابتزاز والتصرف في رئاسة الحكومة كرئاسة حزب. وعدم الاكتراث للخطورة البالغة التي تكتسيها مؤشرات الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. والإصرار على التباطؤ في تنزيل مضامين الدستور الجديد الذي مثل ثورة حقيقية متميزة ومتفردة. مما يحتم على الحزب تحمل مسؤوليته التاريخية في هذا الشأن وفي هذا الظرف الدقيق". باستحضار طبيعة تسيير الأمور في مغرب اليوم، الذي يحكمه الملك، الذي يتولى رئاسة أهم مجالس والمؤسسات التي تتحكم في مفاصل الدولة وتحركات جميع القطاعات بمقتضى دستور سنة 2011، وأخذا بالاعتبار أن حزب الاستقلال هو حزب الإدارة الوطني الذي تولى المشاركة في أغلب الحكومات التي عرفها بالمغرب تحت سلطة قيادة المؤسسة الملكية منذ الاستقلال (الاحتقلال بتعبير محمد بن عبد الكريم الخطابي رحمات الله عليه)، واستحضارا لمطالب الشعب المغربي الذي رفعها الشباب في عشرات المدن والقرى في خرجات حركة 20 فبراير، شهورا عدة في مسيرات قوية لا تزال مستمرة، وإن بزخم أقل، حتى اليوم، فإن حزب الاستقلال مرر من خلال الأسباب التي قدمها حول انسحابه مغالطات خطيرة جدا، ينبغي للمحللين الوقوف عندها. ولعل أولى هذه المغالطات هي حديث الحزب عن استفراد أطراف داخل الحكومة، وهي بالعربية تعاربت حزب بنكيران، بالقرارات الصغيرة والكبيرة. وهذا كلام يحمل تزييفا لحقائق سيكشفها الزمن بعدما سنكشف بعضها في هذه السطور. فلو قيل مثلا "بعض القرارات الصغيرة" لتفهمنا هذا الكلام. أما الحديث عن كل القرارات فهذا مخطئ. أولا لأن القرارات المصيرية والكبيرة في البلد لا تتخذ في الحكومة، بل في القصر بمباركة الملك وبإشراف من مستشاريه الذين لا صفة دستورية لهم. إضافة إلى ذلك، ما هي أهم القرارات التي اتخذتها هذه الحكومة منذ وصولها إلى جزء من السلطة، حتى نقول إنها استفردت أو لم تستفرد بقراراتها. فباستثناء قرار تخفيض الميزانية المخصصة للاستثمارات والزيادة في أسعار البنزين والمواد الأساسية وتسريح لوائح المأذونيات فالحكومة لم تجرؤ على اتخاذ قرارات مصيرية سوى بعد تلقيها الضوء الأخضر من القصر. ما يتعلق بتخفيض نفقات الاستثمار، فهو قرار اتخذته الحكومة باقتراح من وزير الاقتصاد والمالية ووزير الميزانية. الأول لم يكن سوى واحدا من قيادات الاستقلال وهو نزار البركة. وهو نفسه صرح فيما قبل بأن القرار كان في علم مكونات التحالف الحكومي منذ شهور. فكيف نفسر إذن الحديث عن وجود استفراد في مثل هذا القرار. سوى إذا كان حزب الاستقلال بعد وصول شباط إلى أمانته العامة لا يعتبر الحقيبة التي يتولاها هذا الوزير محسوبة عليه. وهذا هو المرجح لأن شباط سبق وأن طالب ولمح إلى أنه سيقوم بإجراء تعديل وزاري، معناه أنه سيقوم بطرح أسماء جديدة من حزبه ستعوض المستوزرين سابقا. وهو الامر الذي لم تتم الاستجابة له عمليا فكان احد أسباب خرجاته وغضبه على "الإخوان". ثانيا: العبارة التي وردت في البيان تتهم أطرافا داخل الحكومة "بإطلاق العنان للخطابات الشعبوية"، تحمل مغالطة. لأن المسألة فيها اتهام غير منصف تماما لبنكيران وحزبه وحتى باقي أطراف الحكومة. فشباط وبنكيران يتقاسمان الرتبة الأولى في الخطاب الشعبوي اليوم بالمغرب، ويأتي بعدهما محمد الوفا الوزير الاستقلالي في التربية الوطنية في الترتيب رقم 3. ولذلك فهو ادعاء غير مقبول منطقا وعقلا. أما النقطة (المغالطة) الثالثة فهي التي تتعلق بتحميل أسباب وعواقب الأزمة العامة في البلد لهذا الطرف الذي يستفرد بالقرارات (حكومة العدالة والتنمية كما قال شباط في كلمته في احتفالات فاتح ماي بشارع النصر بالرباط أمام الآلاف من نقابيي حزبه). وهي مغالطة كبيرة أيضا لأن المغرب يجره خلفه منذ سنوات أزمات على جميع القطاعات والمسئولية في ذلك يتحملها النظام بأكمله ومنه الحكومات المتعاقبة على تسيير شؤونه. ولحزب الاستقلال حصة الأسد فيها. سوى إذا كان أعضاء المجلس الوطني الحالي يعتبرون نفسهم لا علاقة لهم بالسلف "الصالح" للحزب. والأمر ليس كذلك. وتبقى أكبر مغالطة روجت ووردت في البيان بكامله هو توجيه الاتهامات في غياب تقديم المعطيات. فالحديث عن الاستفراد بالقرار وممارسة الوصاية على الشعب والابتزاز و... أمر خطير في دولة تحترم نفسها وهو ما يجعل الرأي العام ينظر إلى البيجيدي أنه هو مصدر ويلاتنا كلها وحده. ومن باب الإنصاف أن نرفع اليوم إلى حزب الاستقلال وقيادته ملتمسا باسم هذا الشعب المغربي العزيز نطالبه ونطلب منه أن يقدم لنا أدلة وحجج ملموسة وموثقة تؤكد لنا كل مزاعمه السالفة الذكر منها في هذه السطور والتي لم تذكر. وفي غياب ذلك فمن حقنا أن نشك في أن الأسباب الحقيقية للانسحاب مرتبطة بحسابات سياسوية ضيقة، ربما قد تكشف الأيام القادمة عنها، وقد تعصف كيف ما كان الحال بحكومة الاستثناء. وكيف ما كانت الأخبار التي ستحملها الأيام القادمة فإن المشهد القديم-الجديد نفسه سيتكرر، حيث سيعين الملك رئيسا تقنوقراطيا للحكومة، مهمته قيادة المرحلة الانتقالية والإعداد لانتخابات مبكرة سيفوز فيها إما حزب القصر الحالي أو حزب آخر سيتم تشكيله إما من بعض الوجوه السلفية التي غادرت السجون بضمانات، أو من منسحبين من هنا وهناك ستفتتح لهم القنوات العمومية والفضاءات العمومية أذرعها ليعانقوا النصر الممنوح فيقودوا مسرحية أخرى وهكذا دواليك. ويبقى المغرب قبل ذلك وبعده أجمل بلد في العالم. محمد الوحماني الرباط - المغرب المغرب: 12 ماي 2013