حينما يكثر الضجيج ويرتفع الغبار يكون ضوء شمس الحقيقة خافتا، وحينما يسعى البعض جاهدا وبكل الوسائل والآليات أن يجعل من الفرع أصلا ومن الأصل فرعا وهكذا دواليك، تصبح مهمة استقراء المشهد مسألة صعبة ومعقدة. هذا الكلام ومثله يمكن تطبيقه بالحرف على المشهد المغربي الحالي وكل الضجة التي أثارت وتثار حول قضية الصحراء بعد التطورات الأخيرة. يصعب استقراء المشهد لسببين اثنين: - أولا: لأن هناك من نصبوا أنفسهم في هذه الاوقات قضاة على العباد. يجرمون كل من حاول أن يدلي برأي لا يتماشى والرواية الرسمية والموقف المخزني في قضية معقدة، ولكن أصول مشكلتها محددة وواضحة للعيان. - ثانيا: لأن الكل (تقريبا وليس قطعيا لأن هناك استثناءات) يكتب ويصرح في القنوات والإذاعات والجرائد، يقدم الرواية الرسمية بشأن الصحراء عموما والموقف من المشروع الذي تقدمت به الولاياتالمتحدةالأمريكية بشأن توسيع مهام بعثة الأممالمتحدة في الصحراء، المعروفة بالمينورسو، وكأنها قران مبين ومنزل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. الرواية الرسمية، باختصار، تقول بأن المغرب دولة ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان في الصحراء وفي غيرها، بينما قادة البوليزاريو إرهابيون وأعداء يدعمهم جنرالات الجزائر وأعداء وحدة المغرب الترابية. هل هذا صحيح؟ أبدا، لا. ولكن قبل تفسير ذلك أرى من الأهم الإشارة غلى أمر مهم وهو ملاحظة ترتبط بالتحركات التي تزامنت مع القضية بأملها، التحركات الرسمية أقصد، وذلك على المستويين الديبلوماسي والحزبي. على مستوى الديبلوماسية وخاصة في علاقة المغرب مع الدول تحرك وفد يقود ثلاثة أشخاص وهم: وزير الخارجية السابق ومستشار القصر حاليا الطيب الفاسي الفهري، وياسين المنصور، واحد من حاملي مفاتيح أسرار القصر والمخزن الأمنية والاستخباراتية، ووزير الخارجية الحالي، سعد الدين العثماني. الفاسي الفهري، كان مشاركا في الحكومة التي خرج المغاربة يوم 20 فبراير مطالبين، من بين ما كانوا يطالبون به، بإقالتها حين خرج الشباب يطالبون بمغرب الحرية والكرامة باعتبارها جزء أساسيا من منظومة المخزن الذي اتهموه شباب الحركة وقوى البلد بحماية الفساد والمفسدين والاستبداد والمستبدين. إذا كان الملف يتعلق بملف كبير وذو صبغة كهذه تستدعي التحرك وربط علاقات مع الذول، فهذه على مستوى جميع الدول مهمة منوطة أساسا بعمل ومهمات وزارة الخارجية وانتهى كل شيء. أما في حالتنا فالأمر مرتبط اولا بالقصر، لأنه يمتلك مفاتيح القضية، والمؤسسة الأمنية نظرا لتجذر هذه العقلية في مسؤولي بلدنا منذ عقود من الزمان. اما وزير الخاجية فقد شارك في التحرك وكأنه فقط ليزين الديكور ويكمل المشهد حتى لا تنفضح الأمور أكثر، وإلا فكيف نفسر سكوت الحكومة ورئيس لأكثر من أسبوع حول ملف يهم الشعب الذي صوت على اغلبيتها. عفوا ليس الشعب المغربي كله، ولكن نسبة قليلة منه 25 في المائة، بشهادتهم هم أنفسهم. أما على المستوى الحزبي فسأركز على تحرك التنظيمات الشبابية الحزبية التي نظمت ندوة مساء الثلاثاء 23 أبريل 2013 بأحد الفنادق الفاخرة بالعاصمة الرباط تحت شعار: "قف... سيادتنا". حضرت جانبا من أشغال الندوة التي كانت عبارة عن مداخلات لجل المسئولين الوطنيين للشبيبات الحزبية المعروفة والغير المعروفة. خلال الندوة تناولوا كلمات عبروا فيها عن مواقفهم بشأن قضية الصحراء ومستجدات القضية وما ينبغي فعله. وبعد الندوة خرجت بانطباع وحيد وهو انني كما لو كنت أستمع لكلمة للملك او رئيس الحكومة. قالوا موقفا واحدا بتعابير مختلفة أصابت الحاضرين بالملل ولذلك غادر أكثر من تلثي الحاضرين القاعة حتى قبل أن يتوالى على المنصة نصف المشاركين. والتي استوقفني خلال الكلمات هو قول احدهم: "المغرب دولة حقوق الانسان. ولا نحتاج غلى من يعلمنا معنى حقوق الإنسان الكونية والديمقراطية والكرامة. لا نحتاج لدروس أمريكا. (وصرخ بصوت مرتفع تحت تصفيقات الحاضرين القوية) المغرب وتاريخه وحاصره درس في حقوق الإنسان لكل الأمم". وختم حديثه يتوجيه التحية للديبلوماسية المغرب وتهنئتها على ما حققته من انتصارعظيم. بالله عليكم: هل المغرب درس للأمم في حقوق الإنسان. وما زاد من استغرابي هو وجود وجوه عديدة من المشاركين، في المنصة، كانت تقود مسيرات حركة 20 فبراير شهورا طوال، يصفقون ويحيون وزيدون. قولوا لي من فضلكم ما الذي تغير في مغربنا قبل وبعد 20 فبراير على جميع المستويات والأصعدة. قولوا للشعب المغربي: لماذا لا تزال عظام المعطلين تهشم أمام قبة البرلمان بالشارع الرئيسي للعاصمة الرباط يوميا، لماذا لا يزال هناك العشرات من المعتقلين السياسيين وضحايا الانتهاك لا يزالون يقبعون في سجون الظلم والوطن، لماذا تزداد فئات واسعة من الشغب المغربي أكثر فقرا، في الوقت الذي تزداد فيها كميشة من الناس يوما بعد ثراء وثراء فاحشا حسب تصنيفات التقارير والمجلات المتخصصة، ما معنى أن هناك 4 ملايين مغربي يعيشون في دور الصفيح والبراريك في كل المدن والقرى وهناك من يملك في كل مدينة قصر وضيعات. ما معنى ما تتعرض له الجامعة من اغتصابات أمنية بعد كل الظلم المادي والمعنوي والبوليس-الأمني الذي طالها عقودا من الزمن، متى ينتهي ظلم هذا الوطن لأبناءه ومتى ينتهي عزل العشرات من القرى والبوادي عن هذا العالم في سنة 2013. من يقدر أن يفسر ما يعانيه العشرات من المواطنين من تضييق في أرزاقهم ومتابعة لتحركاتهم من طرف الأجهزة الأمنية صباح مساء. متى ينتهي كل هذا وذاك. بل متى نقول الحقيقة على الأقل لهذا الشعب المقهور. أما الصحراء فلا شك في أنها تتوق إلى الكرامة والديمقراطية بقدر ما تتوق أن لا تكون يوما تحت سلطة الجنرالات أو تحت رحمة المخزن المغربي. لا شك في أن هناك رؤس وبارونات يلعبون بالعشرات والمئات من شباب تلك المناطق لأهدافهم ولزعزة أمن وحياة سكان المناطق. لكن بنفس التأكيد، لا شك في أن المخزن المغربي قد ارتكب ولا يزال أخطاء فادحة طيلة عقود في حق هذا الوطن كله وهذا الشعب كله. الكلام ليس فيه مراوغة ولكن اعتقد بأن الحقيقة هو أن سكان الصحراء يوم يثقون ثقة كاملة على أن العيش في المغرب وتحت حماية سلطة ديمقراطية نابعة من إرادة الشعب وخاضعة لمصالحة ولا تقترب من حقوقه ولا تعتدي عليه، بل تراعي اختياراته ومصالحه، أكيد أنه آنذاك لن يفضلوا غير الوحدة مع الغرب وفي المغرب. أما ما قيل إنه انتصار في الجولة الحالية فهذا غير صحيح. لأن الانتصار الحقيقي هو لو كانت هذه الدبلوماسية قادرة على إحراج إسبانيا التي تحتل مدينتي وعدد من الجزر دون أن تحرك هذه الدبلوماسية ساكنا. انتصار الدبلوماسية سيكون يوما يكون قرارها غير نابع من التبعية لفرنسا وأمريكا وغيرها من القوى التي تنتهك حقوق الإنسان في القدس وبغداد وكابل وتدعي المطالبة بحمايتها في الصحراء. المصداقية لا تمتلكها الدبلوماسيات التي تعتمد على الخارج لتصحيح أخطائها دون ان تستفتي الوطن ومصالحه في أمر ذلك. متى كانت أمريكا التي تتدخل في الشؤون الداخلية لكل بلدان الدنيا دولة تحترم حقوق الإنسان ولا تنتهكها وهي التي تمتلك أكبر المعتقلات السرية الأكثر تعذيبا في العالم على طوال التاريخ. ومتى كانت تحمي حقوق الناس وهي التي شنت عشرات الحروب وقتلت الملايين وشردت الالاف في المشرق والمغرب لتحقيق مصالحها الإقتصادية، متى ومتى وتطول سلسلة التساؤلات. أما ما نشر في الصحافة في تراجع الإدارة الأمريكية عن قرارها وسحبها للمشروع الذي تقدمت به فهذا ليس بريئا أبدا، خصوصا وان التاريخ القريب علمنا ان هذه الإدارة لا تتخلى عن مصالحها بأي وجه كان، مما يعني بالقطع بأن هناك صفقات دبرت تحت الطاولة جاءت نتيجتها على هذا الشكل، أخذا بعين الاعتبار التطورات الأخيرة للعلاقات المغربية مع بعض القوى العظمى وتنافس هذه الأخيرة على الظفر بقدر أكبر من الامتيازات. لا شك ان التقارب المغربي الفرنسي يؤرق الأمريكان، كما لاشك في ان الشراكة التجارية المغربية الإسبانية القوية في الشهور الأخيرة، لا يجعلهم مرتاحي البال. كما لا ننسى أيضا بان هذه الضجة جاءت مع مشاكل داخلية اقتصادية خطيرة أبرزها سحب الحكومة لأكثر من 15 من مليار سنتيم من ميزانية الاستثمارات وما يمكن أن يسببه ذلك من زعزعة اقتصادية في مستقبل الأيام. الدبلوماسية الغربية وغيرها ستحقق الانتصارات يوم تكون نابعة من إرادة الشعب واختياراته لا من النزوات والإملاءات الفوقية الداخلية والخارجية. لأن إرادة الشعوب في طبيعتها تئن إلى التضامن كما تشتاق إلى الوحدة والابتعاد عن التفرقة والنزاعات. أما الدبلوماسيات التي يكون أصلها غير اختيارات الشعب فلا شك في انها دبلوماسيات فاشلة. ولذلك فهي عادة ما تقدم تنازلات ويعتبرها أبواقها بالانتصارات. متى كان الفشل يحقق الانتصارات يمكن للدبلوماسيات الفاشلة أن لا تقدم تنازلات وتتفرغ لتحقيق الانتصارات. محمد الوحماني الرباط - المغرب