إن مفهوم الجلوس في المقهى , مفهوم دخيل على الثقافة المغربية الحديثة , وقد ارتبطت الفكرة نفسها بظهور نمط من التفكير البورجوازي الغربي الأوروبي الاستعماري للمغرب إبان عهد الحماية , وقد ترسخت ثقافة الجلوس في المقهى, بظهور الطبقة الإقطاعية أصحاب المنازل الفخمة وملاك الأراضي و الضيعات الشاسعة على حساب الطبقة الكادحة من خدام وخادمات راحة وهناء وسعادة هده الطبقات المحظوظة في المجتمع المغربي خلال القرنين الماضيين . لقد تفشت هده الظاهرة في المجتمع المغربي , حتى بات أن اللجوء إلى المقهى من اجل تناول فنجان قهوة –نص , نص –أو اشتعال سيجارة بدرهم أو درهمين بالتقسيط تعبير غير مباشر عن الأبهة و الانتماء إلى الطبقة الميسورة والمحظوظة في المجتمع . وانتشرت المقاهي خاصة في الشوارع الكبيرة والإستراتيجية التي يمر بجانبها الجنس اللطيف وتلميذات التعليم الثانوي الإعدادي و التاهيلي أو الطالبات الجامعيات ... وظن الجالسون أنهم بدلك يصبحون أفرادا متميزين , لهم تخصص في تناول أصناف البن الجيدة , وقد يدخلون في نقاش سفسطائي مع النادل صاحب ربطة العنق حول جودة الفنجان المقدم لهم , أو طريقة تسديد ا لديون اليومية .لكن حقيقة الجلوس في المقهى لا تعكس الوجه الحقيقي للزبون المغربي الذي يلجا صباح مساء إلى هده المقاهي المتعددة والمتجددة الانتشار في ثقافتنا المغربية . صحيح أن هناك تعدد في نوع الزبناء الدين يفضلون الجلوس في المقاهي , وقد تدخل صدفة إلى مقهى معين , فتلاحظ زبناء عديدون , يتحدثون وسط دخان متصاعد من كل زاوية , والهرج والمرج , وكأننا في حانة خمرية , أو في عهد العصر العباسي الثاني حيث المجون والرقص والغناء , والجواري نصف عاريات يسألن الزبناء نوع الفنجان المحبوب لهم . والغريب في الأمر أن المقاهي مصنفة هي أيضا , حسب الطبقة التي تالف الجلوس فيها , ونوع الحوار الذي يتناوله الجالسون , والدي غالبا ما ينتهي بدون خلاصات , كل زبون يدعي انه يعلم أكثر من محاوريه , وخاصة حين يتدخل السماسرة في النقاش والدردشة . ومن الطرائف الواقعية في هدا المجال أن طالبا سنغاليا استضافه زميل له في بني ملال , ولما كانا يتجولان وسط المدينة , استرعى انتباه هدا الضيف كثرة المقاهي , ونفس الوجوه الجالسة على الكراسي الفخمة , فسال الملالي : هل هؤلاء الجالسون , كل يوم في هده المقاهي لا يعملون ؟ . أجابه الزميل : بالعكس يعملون , طيلة اليوم , وفي المساء يجلسون في المقاهي للراحة والتمتع بالقهوة النفيسة والسجائر الرفيعة . ختم السنغالي الحوار قائلا : والله إنهم طبقة ميسورة ومحظوظة في المجتمع المغربي . أما نحن في السنغال , لا نجلس في المقاهي , وليست لنا كل هده الأموال لكي نجلس في المقاهي . وهناك رجال عزاب , لا يعودون إلى منازلهم الضيقة إلا في أوقات متأخرة من الليل , يجدون متعة ولذة في الجلوس بالمقاهي , كما يتأخر كثير من الموظفين المتزوجين نساء لا يشعرون بسعادة معهن في منازلهم , في انتظار تجنب الصراع والمشدات الكلامية مع زوجاتهم , يحبذون إطالة المكوث في المقاهي . فكيف كان أجدادنا ينظرون إلى المقهى ؟ إن المصطلح نفسه يحمل في طياته معنى مكان الجلوس لتناول فنجان القهوة أو ما يسمى بالبن , لكن بطريقة مخالفة لعصرنا , كان الناس يجتمعون في مجالس أدبية أو علمية , ويتناولون القهوة أو الشاي الصيني تعبيرا عن الرضا وقبول النقد البناء مثل ما كان متداولا في الأسواق العربية كالمربد وعكاظ ... لدى الامازيغ مثلا لم تكن هناك أماكن خاصة لتناول القهوة آو الشاي , كان المقهى , عبارة عن غرفة مبنية من التراب , سقفها من أعمدة أشجار البلوط آو العرعار , يشتري الزبون القهوة من عند العطار أي البقال اليوم , ونصف رطل من السكر , ويسلم دلك لصاحب المقهى الذي يضعه في الكوز أي البراد , ويحمله إلى الزبون أو الزبناء حسب الطلب , مع رغيف من الشعير وصحن من الطماطم المفروم بالبصل وزيت الزيتون . وكان الامازيغ يكثرون من تناول القهوة أو الشاي الأخضر المنعنع , خاصة في الأسواق الأسبوعية أو الأعراس تحت الخيام الكبيرة ذات اللون الأسود المصنوعة من وبر الإبل أو شعر المعز أو صوف الأغنام . ما الذي جعل المقهى يهدف إلى الربح وجمع المال , ليتراجع عن وظيفته في المجتمع ؟ . لقد كان هدا المكان قديما يقوم بوظيفة المسرح , والمجالس الأدبية والعلمية , صحيح أن هناك اليوم أيضا مقاهي أدركت خطورتها على المجتمع بصفة عامة وعلى الشخصية المغربية بصفة خاصة , محاولة مسايرة العصر , فأحدثت منافذ كمقاهي الانترنيت , ومقاهي النوادي السينمائية ....ولكن هل تغير الزبون المغربي ؟ وهل تطورت نظرته إلى كيفية استغلال الفضاء الخاص بالتسلية وتنمية هواياته , والإفصاح عن رغباته وميولاته الفردية , أم سيبقى رهين الزبونية نفسها , بين عجلات سيارة امتصاص الأموال والربح السريع ؟ . محمد همشة 26/07/2011.