يا ساسة بلاد العرب وقادتهم، هل ليس فيكم عاقل يرد البأس الذي أصاب شعوبكم منكم؟ أوَليس فيكم إلا من حنث بالبيعة التي أخذها من شعبه قسراً أو من أخذها على نفسه منهم شططاً. فقد كسرتم الأعناق وتماديتم في القتل وقول غير الحق والتنكيل الجماعي وتزوير الرأي وعقاب المخالف بالتعذيب الجسدي الطائل والسجن الحرام وتأليب العدو على الأخ والجار ومن هو أحق بتضامنكم وتفرقة من اجتمع واجتمعت كلمته اختياريا منذ قرون بعنف نار وشهب تحالفات المستعمر المارق الذي ما لبثت شعوبكم أن أخرجته بالأمس القريب جداُ. أتُدخلون بطلب منكم لبلادكم بالنهار "الكهار" من أُخْرِج صاغرا مذلولا، فما أظن عمر المختار وأمثاله من الأحرار إلا متقلبين ألما في قبورهم؟ أتظنون أن لهذا صبرت الشعوب على بطشكم وتكميمكم لها منذ عقود أو ترون أن الجلد الذي لاقت به الويل منكم خنعا وخوفا ومذلة، لا ولا وكلا، فلم يكن ذلك إلا اتقاء نيرانها إن اتقدت حيث تعلم أنها ترد الكيل حيث لا يبقي ولا يذر. القول الحق اليوم لها، أفلا ترونه بأم ما تبقى لكم من أعين. أفلا تقلعون وتقتلعون؟ فلا الصبيان ولا الشباب ولا الكهول ولا الشيوخ، نساءً ورجالاً وغيرهم، منفكين إلا أن تذهبوا. لا، عفواً، لن يتركوكم تذهبون فقد أضعتم فرصة الذهاب ولم تبق إلا ساعة الحساب والسؤال على الأوامر التي أعطيتم لإطلاق الرصاص القاتل على صدور المطالبين بحقهم في الكرامة منكم وإحراق الحقول وتدمير العمران وتعذيب الأبرياء وتشريد الناس من ديارهم وسرقة خيرات بلادهم وإتلافها أنانية وكنزها في مخازن يستفيد منها من اخترتهم أسيادا لكم و فضلتم على ذويكم وجعلتموهم حماة منهم. إن الأحداث التي لم تفهموا عمق أسبابها ومطالبها واستماتة العاملين عليها لبعدكم السحيق عنهم وعن واقعهم الذي أوقعتموهم فيه والذي أنتم متشبثين بالاستمرار عليه بشنها عشواء ضدهم قد تكون بدأت مؤشرا للحد الأقصى من الصبر الممكن لعلكم تهتدون لكنها بتعنتكم وجرمكم أضحت عنوانا لنهايتكم المهينة. إن هذا العنوان لا يهم سوريا وليبيا ومصر وتونس واليمن وحدهم إنما هو رُفِعَ لِيَدُلَّ على شمولية الشأن العام في كل البلاد التي يحكمها العرب والتي لا زالت لا تعي أن كنه المطلب يتعدى الزيادة في الأجور وأداء معاشات بدلا عن العمل الشريف الضائع وأنها تكمن في التمكين من القرار السياسي والحكم للمحكومين وفي إنهاء عصر الاستبداد والانفراد بالأمور تحت ذرائع الأساطير المدعومة بالسياط والإكراه وأولويات السابقين وأصنام التاريخ المزور الجديدة والقديمة منها. إن كنه المطلب هو دخول التاريخ من حيث يؤمن الكرامة والمساواة والحق في التعبير وفي كل الحقوق التي تعارفت عليها البشرية وسطرتها في مواثيقها الدولية وفي إنهاء تسلط الأقليات العائلية والقبلية والفئوية والطبقية على غيرها من عموم الناس وتدجينهم وبخسهم حقهم مما تزخر به بلادهم وأوطانهم من خيرات طبيعية. إن كنه الطلب أن يرحل كل مستبد كيف وأنى كان سبب وأصل استبداده ويرد الأمور لأصحابها الشرعيين التي هي الشعوب فقط ولا غير. يا نخب العرب، يا من سميتم أنفسكم نُخَبَ العرب وأفْتَيْتُم في سُمُوِّكُم على شعوبكم، ألا تستحيون وتتنحَّوْ على عروشكم التي جعلتموهم يصنعون لكم فسكنتموها بعيدا عنهم بُعد الطغيان والظلم والانبطاح على الحرية والعدل والنزاهة والكرامة التي خرجوا للشارع يطلبون وأنتم نيام يرتفع شخيركم إلى السماء من شدةِ الكوابيس التي أطاحت بكم فيها التخمة غير واعين بما أنتم صرتم فيه من الهذيان والمرض وفقدان المناعة والتيه والغش والخذلان. جاء بعدكم من حَكَمَ القول والخطاب ونَفَذَ إلى قلوب الناس واستمالها بسرعة البرق بقوة أساطير الأولين فطَوَّع إرادة من مَلُّوا انتظار الإشارة منكم وجعلها قَيْد مشيئته ومِلك يمينه يأمرهم فيُأمرون خاضعين مستسلمين لجبروتِ يعدهم به عليكم. فلا أشعاركم التي كسرتم بحورها وحررتم بنيانها ولا رواياتكم التي نِلتم بها ألمع الصدريات والجوائز ولا كتبكم التي أوضعتم تحليلاتكم للوضع الراهن ومتشابهات بنياته وغموضها وتعقيدات أصوله والمبهم منها وصعوبة تصحيح مساره وتقويمه ولا مقالاتكم التي أودعتموها نقدكم العلمي والأكاديمي للحكم الجائر ونفثتم فيها من أسباب التقدم وتجريب الجديد ما لديكم وما عاينتموه في أوربا الغربية والشرقية والوسطي وشمال شرق أسيا والصين الشعبية سابقا وبعض دول أمريكا الجنوبية من أسرار الإقلاع الاقتصادي والإنماء الاجتماعي المستدام تبدو قادرة على مقاومة زحف الرجوع والعودة وتألق صورة بدرِ مفقود في أفق ماض ناصع مفترض، أفلا تستيقظون وتكونوا في طلائع الحدث الجلل؟ ألم تَعُوا بَعْدُ أن الكلام لا يستقيم إلا بعملِ يرافقه ووعدِ يُوفَى به آنيا وتنظيمِ يجريان داخله كما وَعى حق الوعي من ترونهم يأتون من حيث لم تحتسبوا؟ إن أشعاركم وكتبكم ومقالاتكم وفنكم كله إما أن يكونوا في عمق الحدث يتحدثون لغته وينبضون بنبضه ويتخيلون بمخيلته معرضين صدورهم لنفس الرصاص غير مختزلين العمل في القول والتعبير وحدهما بل خالقين أسس الفعل منخرطين فيه وفي تنظيمه وتحقيق مساره، أفلم تسمعوا أصوات ارتفعت صادحة بآمال الثورات من ساحة التحرير ومن داخل مسيرات سوريا فأججت وشجعت فضُرِبت وقُتِلت فكانت وقودا يحمي هته الثوراتِ ويُؤَمِّنُ الاستمرار لها؟ ألا تذكرون كيف اختلطت النخب من مهندسين وتقنيين واجتماعيين وطلبة في العمل في أحواز المغرب وأريافه وحواضره جامعةُ الفكر والرأي بالانخراط في رؤى التغيير محترقة على أرض الواقع الطلائعي ليس كالحطب يذكي النار فتأكله بل كالطاقة المتجددة تولد من أصول أبدية لا متناهية تكبر من التهامها للخبيث من حوله ولا تهدأ إلا ليستعيد لهيبها مجدا وتجدرا وعلوا وامتدادا؟ ألم تروا كيف جعل الفنانون السخرية والأغنية أشد فتكا من رصاص عهود الجمر خالقين مدا ومنخرطين في مد جذوره هزت أقبية السجون السرية ورددت أهازيج الحرية في قمم الجبال وامتدادات السهول وزلزلت جدران الجامعات وجندت طوابير تلاميذ الثانويات وأساتذتها وحولت غرف الطلبة الصغيرة في أحياء الرباط الشعبية ومقاهي جامع الفناء والحي المحمدي وكريانات الدارالبيضاء في لحظة تاريخية، ربما كانت سابقة بعض الهنيهات لزمانها، إلى توحد بين الجذر والجذع والفرع وبين الفعل والفاعل والهدف والممارسة فلم تكن هنالك نخبة معزولة أو مغتربة على أصولها حتى يكون خطابها مبهما غير واف أو كاف، فلم يكن هنالك إلا الفعل المُشتَرَك فيه والمُنخَرِط فيه الصغير والكبير معا وجنبا لجنب فالزنازن والجلادون ومن كانوا يحكموهم لم يفرقوا بين الصبية والمراهقين والشباب والكهول والشيوخ فكلهم ذاقوا نفس العذاب وأذاقوا نفس الدرس. ما يهمُّنا الآن ليس أسباب الإطاحة المؤقتة لهته التجربة ولماذا وكيف تم تعطيلها لعقود فذلك عهد ولَّى ولن يعود بأكثر ما يهمُّنا كيف تم الصمود والتحدي والبقاء والمسائلة ومسارات التجاوز وأفق الاسترجاع الأكمل للكرامة وحق الناس في تحديد اختياراتهم وتدبير أمورهم بنفسهم دون حماية من أحد أيا كان نوعه وبسلطة واحدة وحيدة هي سلطة الشعب المحمية من سطو المتربصين من كل الأصناف بقوة قانون أسمى متفق عليه وعلى حدود المس به وبسلطاته كما على حدوده على المس بسلطة الفرد عليه. أيتها النخب باختلاف مناحيك وأسباب انفرادك ووعيك بنفسك وعلوك علينا أناشدك العذر فليس هدفي أن أنصح أو أوجه ولا أن أذكِّر مع ما في الذكرى من نفع بل أن أشاطرك رأياً أتمنى أن يكون خاطئا فأكون سعيدا بالتراجع عنه والتماس العذر والغفران. يبدو لي وكأنك ألفت أن تعطي النصح وأن توجهي الآخرين وكأنك لم تتعلمي الإنصات والاستماع أو ربما نسيت كيف يمارسان فنسيت بالتالي كيف يتحدث الناس وعما يتحدثون إلا أن تكوني أنفت الناس وكلامهم وشؤونهم وشجونهم وآلامهم وآمالهم وتطلعاتهم وخلقت لنفسك عالما خاصا لا يهمهم ولا تهتمين فيه بهم ولا بما هم فيه وجعلت لنفسك فيه لغات تبتكرين بها وفيها وتبدعين لنفسك فيها جمالا وحبا ومراسا وحروبا وأصدقاء وأعداء لا يمتون بصلة بالناس. يكون هذا حق لك لن أنازعك فيه ولا أن أتهمك به بالتعالي على الناس والتخلي عن مسؤوليات لست تودين تحملها وسأكون من المدافعين معك على الرأي الذي تختارينه لنفسك، لن يكون عليك إلا أن تفصحي على رأيك بما تمتلكين من بيان لتكُفي لغط الناقدين المنتقدين والمحاسبين الذين لا يجدون حرجا في التقول فيك وفي التفنن في التعبير على أسباب عدم استهلاك ما تنتجين من إبداعات أدبية وفنية واختيارات إيديولوجية وسياسية وثقافية وحلول اقتصادية لمشاكل الناس الذين تم تطليقك لهم عمليا وفعليا. فلن يكون من المعقول ولا من العقلي ولا من الطبيعي أن تطالبي من لا تستمعي لهم أن يستمعوا لك أو أن يهتم لأمرك ولرأيك من لا تهتمي بأمرهم وبرأيهم أو أن يفهم لغتك من لا ترضين على لغته، فليكن لك صراتك وليكن لهم سبيلهم. فإذا كان هؤلاء الناس لا يقرؤون ما تكتبون لأيتها النخب ولا يزورون معارضكم ولا يشترون لوحاتكم ولا يحضرون محاضراتكم ولا يفهمون كلامكم فلا تلوموهم على ذلك فهم ليسوا منكم كما أنكم لستوا منهم. أفبعد هذا يعجب أحد من تعنت وزير مثقف في مواجهة مسرحيين هواة ومحترفين وفنانين وكتاب طال ما اعتبروه واحدا منهم ومن روادهم وما اعتلى كرسي الحكم حتى أدار ظهره عليهم واكتشفوا أن الفرق شاسع بينهم وليته كان الأول الذي فعل لقلنا حادثة سير تصحح بتبديله بغيره من ممثلي النخب والمثقفين ولكن الأمر غير ذلك فقبله كثر انسلخوا عن هموم نخبهم وناسهم بسرعة أبهرت الكل. لا، أنا لست بالعاق، فلم تكن قط هوايتي أن أنتمي لنخبة ما كما أنه لم يكن قط أملي أن أحظى بغير الانضمام إلى هموم الناس التي هي همومي كذلك ولا أن أتطلع لامتياز ما غير امتياز الانخراط في نضالات الشعب والمتخلى عليهم وعليهن والمهمشين والمهمشات لأي سبب كان ومن حرموا وحرمن من حقوقهم وحقوقهن