وأنا في عزلتي، تذكرت قبيلتي الأمازيغية التي تسكن وجداني، وحتى لا أنسى كنت بين الحين والآخر أستحضرها من الذاكرة. افتقدتها، وكتبت ما كتبت. وإليكم النص الخامس من كتاب "سفر ابزو". 6 مقبرة الأسلاف أحن إلى أسلافي في مرقدهم الأخير، فأسير إليهم متجردا من عفونة الوقت، أتكوم في رعشتي، أنفث من صدري حزنا شفافا، أبصر من ثقوبه ما تخفيه الأرض من أرواح، وأشتم روائح الأجداد التي كانت تعبق بها الأرض والهواء، وتبقى الشواهد المغروسة في باطن الأرض هي ما تبقى من أثر قبور، دكتها الحقب المتتالية، وما أحسب شجيرات الطلح والسدر والزيتون البرية المتشبثة بصدر الجبل المطل على المقبرة إلا من أجساد أسلافي. أداري خطواتي بين القبور حتى لا أزعج نومتهم الأبدية، لا أعرف من أين أتاني هذا الإحساس الغريب، فحين دلجت المقبرة تهيأ لي أني أرى أسلافي يخرجون من النسيان، ويعلنون لي عن وجودهم، يعظمون زيارتي لهم، ويحيون إخلاصي لذاكرتهم. أحتال على الأسماء والنعوت لأرسم الشعور الذي يصعد في صدري كما تصعد البخور من مبخرة متعبد. شعور يغسلني من وجود ينسحب من تحت أقدامي بصمت، ويسلمني إلى بياض مشحون بعبق الزوال. ها أنأ ذا أسافر بين القبور، أتهجى في شواهدها. أكاد، بل أشتم عطر أمازيغية كانت تتزين بأجمل ما في غرفتها من عطور بدائية، وبأحلى ما لديها من ثياب، تجمع كل ألوان الطبيعة الزاهية، وتردد مواويل حزينة تفجر فيها عواطف طفولتها، وحين أتاها القضاء، استرخت على سرير وبري، وعانقت قدرها وإلى الأبد. وأسمع صراخ طفل وهو يتلوى من ألم، وقد تحلقت من حوله قلوب لا تملك غير الدموع، ودخان الأعشاب، لعلها ترد القدر، وسعال شيخ طال به الوقت، وأرى شابا فارسا يموت تحت حوافر الخيل. تجتاحني قافلة من الحزن، وأسترخي بين قبور أسلافي، ثم أغوص في حلم ما أتبين منه غير الجراح. وماذا يمكن أن أمنحهم غير قطرات ملح أسقي بها ثراهم.