إدا كانت مهمة التاريخ عند ابن خلدون هي توصيف الاجتماع الإنساني ،الذي هو العمران، بحيث لم يقتصر فقط بالبحث عن أسباب العمران ،بل تعداه إلى تمحيص التاريخ وحوادثه، فإن مهمة هذا التاريخ بالنسبة لأبناء دمنات ،هو أن يكون مصدرا للعزة والكرامة والافتخار،فهو القوة الدافعة للشعور العصبي الدمناتي (نسبة إلى العصبية الخلدونية والتي ترادف اليوم القومية ). التاريخ بدمنات ليس فقط حكايات،وحوادث مبنية على الظن والتخمين،ولا هي دروس للاستئناس والترف الفكري والعلمي كما لدى البعض، – إذ جعل من تاريخ دمنات مفتاحا لفهم التاريخ الوطني في أدق تفاصيله وأعقد حقبه (كالقرن التاسع عشر) -،بل هي شواهد كامنة في الجسد الدمناتي ، مستفزة للضمير الجمعي بالمدينة، ناطقة بالحال وطامحة لتغير الأحوال. فلا داعي إذن للتبرم والخوف من دعاوى العصبية والعنصرية التي يلحقها البعض على عواهنها على أبناء دمنات الصامدة، فالعصبية بحسب مؤرخنا ابن خلدون هي عصب الأمم،وقد قال فيها : كلما كان الأفراد غارقين في العصبية أكثر ، كلما كان دفاعهم عن قبيلتهم أشد،والعكس بالعكس، فالعصبية بهذا المعنى مفهوم ارتباط وتجل، تعبر عن انتماء المجموعة للأرض وللأفراد. وبقدر ما اتسعت الأخطار والتهديدات بمجموعة بشرية وبمصالحها، يكون التحام المجتمع بكافة طبقاته الاجتماعية، ويكون إقدارهم على القيام بأعمال للدفاع عن الارض والوطن والقبيلة. فلا حرج إذن من النظر إلى مشروع الجهوية المتقدمة ، كما خلصت إليه أشغال اللجنة الاستشارية، كتهديد لموقع هذا الكيان الجغرافي الصغير المسمى دمنات، ضمن خريطة الوطن الأم.إلا أننا ومن هذا المنطلق ، ومساهمة منا في هذا النقاش نبدي الملاحظات التالية : الملاحظة الأولى: دمنات والتقطيع الترابي اعتمد تقرير اللجنة الاستشارية في مسألة التقطيع الجهوي للمملكة، جملة من المعايير التقنية الموجهة للتقطيع الجغرافي وهي : الفعالية والتراكم والتجانس والوظيفية والقرب والتناسب والتوازن.....الخ. فأفرز تقطيعا ب 12 جهة للمملكة ، تختلف عن تقسيم 1997 ، وكان الغرض خلق أقطاب اقتصادية كبرى ، وتحقيق التوازن بين جهات المملكة ما أمكن، إلا أنه أستند في عمل ذلك على الشبكة الإدارية الإقليمية والجمعاتية القائمة حاليا، فهو لم ينشغل بإعادة توزيع المجالات الترابية المحلية وتجديدها، بل جعل ما أسماه التراكم القائم، والاستفادة من تقاليد عريقة للمملكة في اللامركزية الإدارية، نقطة انطلاق أشغاله. وبالتالي فسؤال الموقع الإداري لمدينة دمنات كما الشأن لمدن أخرى له سياقات أخرى ، ومجرى تدابير إدارية وسياسية سابقة، وهذا لا يمنع بطبيعة الحال إعادة التفكير في أنجع الطرق التي تخدم مستقبل هذه البلدة. الملاحظة الثانية : دمنات ومجالها الحيوي طبعا للجغرافيا لغة ومنطق خاص، ولها أدوار مصيرية في تحديد سياسات الدول ومجالها السياسي، وتبادلاتها الدولية، وعلاقاتها الخارجية، كما تشكل بالنسبة للمدن كذالك، هواجس وتحديات، فإما أن تكون الجغرافيا محفزة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية كما هو شأن المدن المستقطبة ،وإما أن تكون عائقا لتطور المدينة ولتنافسيتها الاقتصادية ،فتصير مدنا مولدة للهجرة، فاقدة للجاذبية والاستثمار. كما أن للوقائع التاريخية والحضارية، تأثير على البنى الثقافية والذهنية والنفسية للساكنة . وفي تفاعلها مع حواضر ومدن أخرى ،فيقع الاندماح أو يستعصي ، بحسب قوة وحجم العلاقات والروابط التي تبنى معها، وبحسب تفاعلات الساكنة مع قضاياها التنموية والإدارية والسياسية. وهنا نطرح التساؤل التالي: ماذا يعني الإلحاق من عدمه؟ أي إلحاق مدينة دمنات إداريا بالعمالات المحيطة بها، كقلعة السراغنة أو أزيلال أو مراكش أو تحناوت أو بن جرير ....الخ.هل يعني ذوبان مجال جغرافي ما في مجال آخر وتبعيته له؟ وبالتالي هل سنتحدث هنا عن تهديد ما لمدينة دمنات في كيانها ، وحضارتها ،وهويتها،وتجارتها ونسيجها الاجتماعي.....الخ.أم أنه استتباع إداري فقط بخلفيات أمنية ليس إلا؟؟؟.....لا يفقد لهذه المدينة “عصبيتها” ولا يهتك هويتها وبناها الثقافية والفكرية،إلا بقدر قابلية نخبها وسكانها للوقوع في ذلك.ثم أليس من المجحف أن ننظر إلى مدينة دمنات نظرة المتوهم المنتظر، لقرار هنا أو هناك؟ وأقصد قرار إلحاق دمنات ترابيا بعمالة مراكش، أو أمل توسيع طريق دمنات ورزازات، وانتعاش السياحة الجبلية في هذا المحور. أليس من الواقعية أن نتدارس الإمكانات الذاتية للمدينة، ونتدارك انتقال الثروة والمال الدمناتيين للاستثمار وجهة مدن كمراكش وبني ملال؟أليس من الأجدى أن ننطلق من الموجود دون انتظار الذي سيأتي أو لا يأتي؟ إن نظرة متفحصة في المجال الجغرافي والعمراني، الذي نحيا فيه بمدينة دمنات ، نظرة متفاعلة وحية ستأخذنا إلى أن لمحيط دمنات ، ومجالها الحيوي ،خصائص ومميزات ونقاط قوة كثيرة ، تحسد عليها. فطوال تاريخها وحاضرها شكلت ولا تزال نقطة تماس ما بين السهل والدير والجبل، إنها مونغرافيا لا مثيل لها، حيث نجد أراضي أولاد خلوف والدراع وأمضغوس والحمادنة وسور العز والصهريج وواركي.... تمثل الأراضي المنبسطة،كما نجد أراضي ايت معلا وتاودانوست وايت فلالاض وأنزو.... تمثل الدير وما يعنيه من خصوبة للتربة وإنتاجية عالية، كما أن ايت امكون وايت ابلال وايت اومديس.... تشكل الحزام الجبلي وخزانا هائلا للموارد المائية. كما عملت دمنات على الدوام على الدمج والامتزاج بين أصناف وإثنيات مختلفة ذات أصول عربية وصحراوية وأمازيغية وسوسية، شكل فيها الجبل خصوصية ثقافية وحضارية متميزة . الملاحظة الثالثة: الواقع الدمناتي ما بين تغييره والتغير به إن أهم ما يشكل ثروة المدينة وغناها بالإضافة إلى المجال الطبيعي والجغرافي، هو إمكانها البشري. فالساكنة النشيطة بدمنات وأطرها،سواء من بالداخل أو بالخارج وعلى اختلاف فئاتهم العمرية ،هم عصب أي تحول في المستقبل ، خصوصا الشباب منهم فهم القادرون على تغيير محيطهم، والتأثير في الظروف السياسية والاجتماعية التي تتحكم فيهم،وذلك بالمبادرة الخلاقة، وبالمشاركة في تسيير الشأن المحلي، وتطوير بنياته الاقتصادية ومن خلال تنمية كفاءاتها وخبراتها وكفاياتها الحياتية، لتنتقل من مجرد المطالبة باقتسام الثروة، إلى التفكير أبعد من ذلك ، في خلقها. ومن انتظار السياسات التنموية إلى الفعل فيها وبنائها. وأما التغير بالواقع وهو حال اليوم، فنقصد به عدم القدرة على الفعل والتفاعل الإيجابي، وأن يظل الإنسان حبيس أفكاره وانتظاريته،ورؤيته اليائسة للواقع،فيصبح رهينا للماضي والتاريخ والأمجاد،وللحاضر في شكله الثابت لا المتغير. الملاحظة الرابعة : أدوار النخب المحلية في رسم خريطة مستقبل دمنات. شكل موضوع التنمية وتفعيل مقتضياتها بالنسبة للدولة ومؤسساتها تحديا ملحوظا،فهي ركيزة من ركائز الاستقرار السياسي والاجتماعي،لذا انخرط المغرب منذ 1957 تاريخ إعلان المغفورمحمد الخامس عن الإجراءات التنظيمية للإستحقاقات الانتخابية الجماعية، في تجربة اللامركزية، كأداة لتفعيل سياسة القرب ، وتمكين المواطنين من خدمات المرفق العمومي،فتمت أول تجربة انتخابية محلية (بلدية وقروية) لمغرب ما بعد الاستقلال في 29 ماي 1960،إلا أن التجربة في مجملهاعرفت عدة تعثرات عرقلت بلوغ الأهداف المتوخاة منها،أهمها مدى إشراك السكان في تنمية مناطقهم،من خلال المساهمة في تشكيل المجالس المحلية ،وفي صياغة المخططات التنموية،والبرامج والمشاريع الملائمة. ولعل الإكراه الذي نرصده في جماعات دائرة دمنات،هو غياب النخب ذات الكفاءة العالية،والمؤهلة لقيادة سياسات تنموية حقيقية، تستجيب لتطلعات السكان،فبرز الأمي رئيسا للجماعة، و( البورشوازي) موظفا بها ، والسماسرة وسطاء بين الدولة والمجتمع. فكانت النتيجة أن غابت المصلحة العامة وسط هذا السوق. ولتجاوز هذه العقدة،واعتبارا لكون الديمقراطية لا تتحقق إلا بثقافة سياسية مشاركة، وبإنسان يمتلك نظرة واضحة حيال ما يجري في مجتمعه و مؤسسات دولته، وفي محيطه وجماعته، وبالنظر إلى تطورالساكنة وتجذر وعيها، وبروز نخب محلية جديدة من الشباب،(أساتذة،موظفين،حرفيين،تجار.....).أصبح من الازم أن يأخذ الجيل الجديد من الدمناتيين،زمام المبادرة، وأن يتقدموا للمساهمة في تسيير الشأن المحلي لبلدتهم. هذه رؤى وتطلعات، لعلي أساهم من خلالها في تنمية الوعي بقضايا الشأن المحلي بدمنات ،وأغني بها النقاش الدائر حاليا، إن وفقت فهو من فضل ربي،وإن أخطأت فمن نفسي .والله ولي التوفيق. ياسين الضوو [email protected]