من بين فجاج أعالي جبال أيت مكون باقليم ورزازات ، تمر صباح مساء، "زينةْ الشلوح عيشة" المرأة الثلاثينية. بمرملة سريعة تلازم سيقانها، وعلامات الجلد على وجهها، تقصد عين مياه "مطفية نيزدار" مردفة على ظهرها ابنها الصغير ابراهيم، بعد أن تزعمهم حمار ألف وعورة المسالك الضيقة، وقساوة الظروف الطبيعية في منأى كلي عن ما هو حضاري متمدن. رحلة شاقة تعودت على مكابدتها "عيشة"، عندما لا تجد من يحمل "الركاوي" لملئها بمياه العين العذبة. تضطر لقطع أميال العذاب.. بملابس يمتزج فيها لون"الفرطيطة" الأحمر القان، بخطوط بيضاء مسالمة تتخلل قميصها الصوفي الأخضر. تنتعل حذاء بلاستيكيا "مرقع" بسلك من نحاس رفيع، وعلى رأسها لفت مضمارية يختلط فيها السواد مع قليل من لون طين "الحمري".. شكلا هما الاثنين لوحة زيتية تخترق كل أبعاد الميتافيزيقا البدائية.. "الحمد لله !!" هكذا قالتها "عيشة"، بعد أن قامت بحركة بانوراميكية على "مطفية نيزدار".. وجدتها بلا زاحم يذكر كغير عادتها، فستعجلت حمارها بضربة قوية على قِنته، ركض على اثرها بدون توقف، مفرملا حوافره على رأس العين. بسرعة البرق، فتحت "عيشة" عقدة "الحمال" الملفوفة على صدرها، وضعت ابنها على مقربة منها، مانحة اياه سدادات "الركاوي" ليلهو بهم، فبدأت تغرف بأسطوانة السردين المستعملة، المياه، وتسكبها في جوف "الركاوي"، بينما حمارها في أزهى أيامه حينما روى ظمأه تباعا. صورة ضربت في عبق التاريخ الربع، عندما استجمعت "عيشة" قوتها الخارقة لربط "الشواري" الثقيلة على الحلس البالي، في محاولات جادة للانفلات من عين "مطفية نيزدار"، وهي تنش ذباب تجمهر على جرح غيرغائر في ساق حمارها الأهزل. عند عودتها إلى منزلها، لا تكف "عيشة" من ترديد بعض الأهازيج، والأغاني المأثورة.. من قبيل "ويواد أيمانو هان الزمان يهلكي ..."، فلا طالما سمعتها من عند أمها قبل جدتها.. لاوعيها اعتاد على ترديدها لنسيان أعباء الطريق المضني، وبين الفينة والأخرى تجمع بعض الأغصان اليابسة، رغبة منها في إشعال نار"كانون" مطبخها المليئ بسواد "الحموم". عزلة كاملة تعيشها "عيشة" بين أحضان الأطلس الكبير، الذي لا طالما كان مكان تختبر فيه رجولة الرجال، أو حتى النساء اللائي لا يقلن أهمية عنهم. قوة تحدي الزمن بقسوته النكراء، وإصرار مسترسل على العيش في مناطق تصل درجة الحرارة فيها إلى 09 درجات تحت الصفر..وتربية "قشلة" من الأبناء، كلها تحاصر "عيشة" المقاومة لعدو من نوع آخر، وتصراعه بمخالب لبوءة فعلية. هشام الضوو صحافي بجريدة "الصحراء المغربية"