كثر يرون فيه الشعر وقد تجسد سينمائياً وكتابياً. وها هو يرحل، وترحل معه صورة مؤسسة للسينما المغربية، فيها ألق الثقافة وهواء الشعر بما هو نفس يجعل الشاشة الكبرى تزاحم الشعر في قلق القلب وإثارة العاطفة الدفينة. أحمد البوعناني، أكاد أقول هو الوحيد الذي استطاع تحقيق ذلك في لحظة خاطفة لم تتكرر، لأسباب ذاتية وجمعية. لكن الحدث الآن هو ذهابه النهائي. ولا بد من أن نستذكر خروجه المهرجاني في مناسبات قليلة حيث تم تكريمه، قادماً في كل مرة من مدينة دمنات الجبلية، حيث اعتكف لزمن بعد مأساة حرق منزله سنة 1993 ووفاة ابنته «البتول» فيها، ما كان له بالغ الأثر عليه وعلى زوجته الفنانة نعيمة. ونتذكر تلك الإطلالات الجماهيرية القليلة لنصل الرحم بفكرة سينمائية خالصة. أحمد البوعناني، الذي كان شاعراً حقيقياً باللغة الفرنسية، هو من طلبة معهد «الإيديك» الفرنسي الشهير خلال فترة الستينات، والتي عرفت مرور أبرز مخرجي فرنسا الحالية. ومنها انطلق مفعماً بسينما الانخراط وسينما الرؤية، كي يخرج أفلاماً يداعب فيها القدرة على إبداع صور تتجاوز منحاها الصوري كي تشكل لمسة فردية لزاويا التقاط غير بريئة، ثم ليؤسس، رفقةَ ثلةٍ من المخرجين، سينما مغربية مغايرة، فكانت مشاركته السينمائية مخرجاً وكاتب سيناريو ومولّفاً. وهكذا أخرج أشرطة قصيرة جميلة هي «مسيرة شاعر» (1966)، حيث تطرق إلى رحلة شاعر يبحث عن جذوره في امتداد الصحراء بما لها من افتتان، و «الذاكرة 14» الذي هو «في الأصل قصيدة شعرية كتبتها سنة 1967»، حسب ما أورده الناقد محمد باكريم، وشريط «6- 12» سنة (1968)، وفيه تم التقاط لحظات ومشاهد لمدينة حسب تصور شاعري دافق. ولحسن الحظ أن هذه الأشرطة نالت اعترافاً دولياً وتمت برمجتها خلال ربيع السنة الماضية بمعهد العالم العربي بباريس. ثم عمل المخرج الراحل مولّفاً، يتكلف بالمونتاج، لكن كعملية ربط لها سِرُّها، منذ السبعينات، في فيلم «الكنز المرصود» لمحمد عصفور، و «وشمة» لحميد بناني، و «من الواد لهيه» لمحمد عبازي على سبيل المثال. هي انشغالات سينمائية متعددة، من أبرزها رعايته لمسار المخرج داوود أولاد السيد، والذي شارك في كتابة سيناريو فيلمه البكر «باي باي سويرتي»، وكتب سيناريو «عود الريح»، كما عملا معاً على كتاب بالفرنسية يتضمن أشعاره مرفقة بصور التقطها أولاد السيد، واختارا له عنواناً دالاًّ هو «أراضي اللحظة» (أو جغرافيا اللحظة). لكن مساهمة أحمد البوعناني الكبرى وبصماته الفنية الخاصة تتجلى في فيلمه الأوحد الشهير «السراب» (1979)، والذي يعد أحد أفلام قليلة أسست للسينما المغربية الحنينية الموسومة بالطابع الإبداعي الفني الخالص، فالمعطى الشعري حاضر فيه بكثافة من خلال عنصر الشاعرية في صوره وفضاءاته الجميلة التي تمت ترقيتها بواسطة اللونين الأبيض والأسود. وذلك عبر معالجة جمالية متقنة وقريبة ومتأنية تتغيى إبطاء مقصوداً للعدسة كي تبين جمال الطبيعة القروية من خلال لقطات جامعة، وجمال الشاطئ والبحر حسب الأحداث والوقائع. والشريط في حكايته عبارة عن قصة تمتح من الجو الواقعي مادتها ومن الخرافة معطاها السردي الحكائي. وبالتالي يحضر الشعري في المضمون أيضاً ويتضافر معه. فهو يروي حكاية رجل بدوي زمن الحماية الفرنسية سنة 1947. يعثر الرجل على نقود أجنبية في كيس طحين يوزع في التعاونية، الشيء الذي يحعله يبدأ مسلسل الحلم وتحقيق الذات. وأول ما يفعل هو الهجرة إلى المدينة، وهي هنا مدينة سلا. لكن الأمر لن يكون سوى ظلال وتيه وجهل مطبق. وقد جسد الدور الممثل الغائب/ الحاضر محمد الحبشي باقتدار كبير، وقدم أحد أجمل وأكمل الأدوار التشخيصية في السينما المغربية بلباس جندية ممسوح ومرقع، وعفويته في الأداء، ولمحاته الفريدة في طريقة توظيفه لجسده وتعابير وجهه. في كوخ سيعيش الرجل قدراً تختلط فيه المقاييس ويتداخل الوهم بالواقع. وينحو الشريط منحى الإضحاك الساخر العميق من مصير حياة وانهيار وجود. الشريط قطعة من الواقعية الجديدة في أبهى ما تقدمه من تجربة إنسانية ملخصة في جو الفقر والكدح والرغبة في التعالي والكرامة. اليوم، ونحن نودّع قامة سينمائية نادرة فضلت المكوث والعمل في الظل، لا نملك إلا أن نتأسف ونلقي السؤال الذي لا بد من طرحه: ما الذي جعل موهبة وطاقة إبداعية كأحمد البوعناني، لا تمنح السينما المغربية روائع أخرى طيلة عقود حياته بعد هذا الشريط؟ لا جواب سوى أن دروب الفن والحياة تتقاطع وتتفارق أحياناً، من دون أن نجد لهما تفسيراً واضحاً. لكن الحقيقة الوحيدة المتبقية، هي أن المخرج كان مثل الناسك المتبتل في محراب الفن بصمت، وقد منحنا بعضاً من مآثره القليلة التي من الواجب إعادة قراءتها. الدارالبيضاء :مبارك حسني الجمعة 11 فبراير 2011 عن دار الحياة اللندنية