نسيم ناعم يلامس منحدرات الجبل، تسمع له همسا ولا تراه، كوحي الأنبياء يأتيني، يدغدغ سمعي، ويهيئني للقاء الجمال. وقفت على الضفة عاريا، أرغب في أن يلامس الهواء والنور والماء جميع أجزاء جسدي المحنط في الأثواب والذي لا يتعرى إلا في الظلام أو بين الجدران، لا أذكر متى تعريت آخر مرة في الهواء الطلق؟ ألقيت بجسدي في النهر، وداعبه الماء بلين ورفق كأنامل عروس تلمس لأول مرة جسد رجل، نشوة عارمة تغمرني، امتلأت بالحياة وأنا أطفو كورقة شجرة، ثم أغوص في النهر، أتلمس أطرافه الأنثوية، أغرق فيما يشبه الغيبوبة الواعية، أنا والنهر توحدنا، فكيف لا أنتشي وأنا أعود إلى رحم الأب، إلى لحظة البداية، لحظة التكوين الأولى ألم تولد الحياة في الماء؟ وأنا مستلق على ظهري، رفعت بصري نحو الزرقة اللامتناهية ولمحت غيمة بيضاء بلون القلب، كم تمنيت أن تكون داكنة لعلي أتبين فيها وجهي. أنا الآن في تمام عريي، نسيت أني قادم من مكان يعتبر فيه العري إخلال بالقيم الأخلاقية، استفزاز للمجتمع وثقافته، يعاقب عليه القانون والشريعة..يتهم فيه الشخص بالحمق فيعزل في مستشفى للأمراض العقلية والنفسية..هنا، في هذا الفضاء المفتوح على البدائية، عريي مباح، وأبحته لنفسي، فمن ذا يقدر على نزع طفولتي، وبراءتي، وفطرتي؟ من ذا يقدر على اتهامي بأني أخلّ بنظام القيم لأني عدت إلى حقيقتي؟ أنا الآن في عالمي الذي أحبه لأني أحقق فيه وجودي، وها هي ذي أمتي تسبح من حولي، تداعب جسدي بزعانفها، للتعرف على هذا المخلوق الغريب الذي اقتحم عليها سكونها بضجيج سباحته العشوائية، تقضم بغضا من جلدي، وكأنها تنظفني مما علق بي من وسخ من كنت بينهم. أتمدد فوق الرمال الدافئة، أغمض جفني وتأتيني الأصوات من بعيد، تختلط، تمتزج لتشكل مجتمعة لوحة نغمية متجانسة تحيل على عالم السلم والرقة والهدوء والطمأنينة، نغمة تزودني بطاقة مدهشة من العطر السماوي الطاهر، فأطير محلقا في زرقة لا حدود لها. الجنون يصبح هنا تعقلا، والفضاء المحاصر بالجبال فردوس بلا نهاية، الأفكار الصغيرة تبدو عظيمة، والمشاعر الجافة تَمطُر نضارة، والروح التي طالما كانت معتقلة في الجسد تتحول إلى أبخرة أضرحة الملائكة، وكل مقاومة لما تفعله الطبيعة في ذاتي الآن لا يجدي، ما علي إلا أن أمون وديعا، مسترخيا في عيادتها لتطهر كل الخلايا ربما أكون شخصا آخر. هذا السكون يدفعني في كثيرا من الأحايين إلى التأمل في بعض مشاهد حياتي بين بني البشر، فأنا أحتاج إلى كثير من الصبر والحلم لأستوعب ما يجري حولي، العالم يتغير بسرعة مذهلة، إنه يمضي نحو الكارثة، وكأن المأساة هي وحدها من يعطي للحياة معنى في هذا الزمن المقيت. وحده القوي من يفرض شريعته، وحده الفقير المدقع المعيل من يؤدّي الثمن، وحده الإنسان الطيب من يتجرع العلقم، ففي عالم الأقوياء، لا مكان للعواطف، منبوذ من يتكلم شعرا، لغة واحدة هي الحق: لغة التدمير. المجرمون اليوم هم من يصنعون للإنسانية المستقبل، فلا شيء يوقف نهمهم وشهوتهم لكرنفالات الأشلاء البشرية. إن لهم شوق إلى الدماء لا يضاهيه إلا حبهم للمال، وإني لأرى في كل ورقة نقدية تتداول عرق أجساد الضعفاء والبؤساء. يقولون: \\\"إن الإنسانية قفزت خطوة هائلة إلى المستقبل\\\". والإنسانية التي يقصدونها هي: \\\"هم، أنفسهم\\\"، من يملكون القرار والوسيلة، ويبدعون كل أشكال التدمير والتخريب: تخريب البيئة، تخريب الأجساد، تخريب الأنفس، وليست الإنسانية تلك التي تعيش في الكهوف والأدغال، التي تعاني الفقر والمرض والحرمان وتحيى على ما تجود به الطبيعة الأم، أملهم الوحيد في البقاء. وأنا أتأمل هذا الزمن النكد لا ألمح في الأفق سوى القحط واليبوسة، فلا شيء يبشر بالخير، قليل هو الضوء الذي ينبعث من كوة صغيرة، بشارات الخير ظلت طريقها، وتاهت في رمال لا نهاية لصفرتها..هكذا تتلون كل الحقول بلون خريفي يكاد يكون أزليا. وإذ أتحسس طعم الريق في حلقي لا أتذوق غير الملوحة، أكاد أختنق عندما كنت أسمع وأشاهد مصاصي دماء المعوزين يتحدثون من خلف المرايا معلنين ميلاد غد جميل سيكون فيه العالم أكثر حرية وأمنا وإنسانية، يسوقون هذا الحلم الوردي المسموم ويبيعونه للبسطاء من الناس، من يتطلعون من جوعهم إلى يوم يرون فيه العالم وقد ازدهى وأنار، فما عاد للشقاء والبؤس موطئ قدم.