ليس الغرض من مقالنا هذا التعريف بالرشوة كظاهرة اجتماعية مقيتة ينهى عنها الله ورسوله ويعافها كل طبع سليم ،لان تعريفها أو حتى مئات المقالات بل والكتب التي ألفت في شأنها لم تنفع في إجتتاتها من مجتمع تغلغلت الآفة في كل مؤسساته بشكل يصعب القضاء عليها جذريا.إن اعتقال الدركيين الثلاثة بتنانت وتقديمهم إلى المحكمة العسكرية بالرباط بتهمة الرشوة ،موضوع يمكن تناوله بالتحليل من زوايا متعددة: 1 رجل الدرك في المتخيل الجماعي رجال الدرك الملكي من أهم الفئات المؤسساتية في مجتمعنا المغربي التي تلتصق بها بصفة شمولية صفة الارتشاء أكثر من غيرها حتى أضحت في المتخيل الجماعي للمواطنين المغاربة مرادفا للرشوة نفسها ،بل ومضربا للأمثال الشعبية في كل تقنيات الاستدراج نحو منح الرشوة ،خصوصا من طرف مستعملي الطريق من سائقين وغيرهم.لذا،نجد هؤلاء أي السائقين من الفئات التي تنحي دوما باللائمة على رجل الدرك وتصفه بأقبح الصفات : الشفار ، كرش الحرام، صاحب الحمراء ،جدار ربعمية ( تشويها لغويا إستهزائيا لكلمة : جدارمية ، وإحالة على عدم إقتناع هذا الأخير بالقليل ...الخ ). إنها صفات حولت رجل الدرك في مجتمعنا من رجل يسهر على أمن وسلامة الوطن والمواطن إلى شخص سلبي يسهر على مصلحته الشخصية ويستمد هبته من قوته المعنوية في التسلط سواء بالاستدراج نحو الارتشاء أو التهديد بتسجيل المخالفات الطرقية. وعلى ذكر هذه الأخيرة ، فإن الكثير منها وخصوصا تلك التي تؤدي إلى وقوع حوادث سير مميتة ، نادرا مايستبعد فيها الدركي كمسؤول أول أو أخير لعدم قيامه بواجبه المهني بسبب الرشوة على الطريق ... مجمل القول من هذه الزاوية ، أن رجل الدرك أضحى في الضمير الجماعي لأفراد مجتمعنا مسؤولا أمنيا يقدم صورة نمطية عن مؤسسة أمنية قوية ، بقدر ماتساهم في استتباب الأمن والسلام ، بقدر ما تصنع رجالا يصعب انتزاع الرشوة من سلوكياتهم كما يصعب انتزاع حلمة الثدي من فم رضيع جائع. 2 منظور أحادي خاطئ حقيقة الأمر أن هذا المنظور خاطئ إلى حد ما . فرجل الدرك يبقى مواطنا مغربيا هو الآخر عليه واجب المساهمة في بناء صرح مجتمعه من موقعه كمؤسسة أمنية ، وله حقوق يتجسد أقلها من خلال الحق في الحصول على أجر محترم يعادل جسامة المسؤولية الملقاة على عاتقه واعتبارا لحساسية مواقفه ودقة تحركاته ، علاقة بمركز القرار الأمني الذي يؤطره . وبالتالي ، فلا يمكن أن ننتظر من رجل أمن أب لخمسة أبناء وربة بيت أن يبقى مسؤولا مترفعا عن نزوة الارتشاء وهو يتقاضى ما لايسمن أسرته ولايغنيها من جوع في زمن بقدر ماإرتفعت فيه الأسعار ، بقدر ما كثرت فيه القضايا الشائكة وعظمت المسؤوليات ( إرهاب ، تهريب ، مافيا مخدرات ، ارتفاع حدة حرب الطرق... ) . لا ندافع عن الرشوة أو الرشاة ، ولا ندعوا إلى ضرورة تمتيع رجل الدرك المغربي بامتيازات رجال الامن بolice district أو شرطة profiler ولكن نقتنع بأن التحفيز المادي حق ملازم لواجب ضبط وتنفيد مسؤولية كبيرة ، كما أن التكوين المستمر حق ملازم لواجب ضخم إسمه الحفاظ على أن المواطن وسلامة الوطن ، إسمه بكل بساطة المشاركة الفعلية والمساهمة الفعالة في خدمة المواطن وبناء صرح الأمة. إننا مقتنعون جدا أن التكوين المستمر لهذه الفئة من خلال استحضار مقاربات علمية حديثة ، سيغير حثما من النظرة السلبية لغالبية المجتمع تجاهها ، وسيجعل من الإدارة المؤطرة لها مؤسسة قادرة وباستمرار على صنع أفراد مسلحين ، ليس فقط بمسدسات وزي عسكري وسلطة معنوية متينة ، ولكن بعقول جيدة التكوين ، مبدعة وفاعلة بشكل أكثر إيجابية . 3 لا للمراقبة الموسمية صحيح أن أحداثا مهمة في بلادنا ، كحادثة قناص تاركيست وحادثة قناص افني ، حركت الاجهزة الامنية على أعلى مستوى من مراكز القرار الاداري لتفعيل آليات المراقبة والمحاسبة ، وذلك من خلال إرسال لجان للتفتيش مهمتها زجر كل المضبوطين من رجال الامن والدرك في حالة تلبس تهم غالبا عالم الرشوة والارتشاء وهذا أمر لايمكن إلا أن يثمنه الجميع ، نظرا لكونه سيؤدي إلى زجر المتلاعبين بمواقع مسؤولياتهم ، والتخفيف من بعض الانعكاسات السلبية المباشرة لآفة الرشوة ، وبالتالي إلى تطبيق القانون في آخر المطاف ، ولكن ، الشئ الذي ضجر منه المواطن المغربي قاطبة هو موسمية المراقبة واقتصارها على فترات ضيقة وظرفية تذكرنا بموسمية تحركات تفتيشيات مراقبة الأسعار عند اقتراب شهر رمضان ثم اختفائها بعد عيد الفطر بقليل ، لتفسح المجال لتجار الفساد للتلاعب بأسعار المواد الغذائية واحتكار الدقيق المدعم ... إن ما تستلزمه الظرفية الراهنة ، هو أن تصبح ثقافة الحساب والعقاب خبزا يوميا ، عملا مستمرا وخطا متواصلا. ولقد استبشر المغاربة خيرا عندما قامت الجهات المسؤولة بفتح ملفات شائكة وحساسة ، حوكم على إثرها العديد من كبار الشخصيات والموظفين السامين بالادارة المغربية ( السليماني والعفورة ، ثم ملف الرماش نموذجا ) لكن مالبث أن أضحى هذا العمل محدودا بالنظر لحجم التلاعبات والشطط في استعمال السلطة و الاغتناء اللامشروع الذي مازال يستفيد منه الكثير من أصحاب البطون المنتفخة سواء تعلق الامر بادارة الجمارك أو بعض المواقع الوزارية الحساسة ، حيث طغيان المصلحة الشخصية على حساب الضمير المهني وروح المسؤولية ، ومن هنا يتبين لنا أن المسافة التي تفصلنا عن بلد صاحب كتاب surveiller et punir ، أعني بالقول فرنسا ، في مجال ردع الرشوة من أجل الردع والسير قدما نحو تغيير العقليات ، مسافة بعيدة للغاية . وللذكرى فقط ، نتذكر جميعا الملف الشهير ل Bernard Tapet الذي ضبط في عملية ارتشاء تابثة في حقه ، من أجل تغيير نتيجة مباراة في كرة القدم لصالح فريقه أولمبيك مارسيليا ، فدام معه التحقيق سنة كاملة ،قبل أن يتم الحكم عليه بثلاث سنوات حبسا وعلى فريقه بالنزول إلى الدرجة الثانية ...هذا يتعلق بكرة القدم فقط ، فما بالك لوضبط الرجل وهو يختلس أو يغتني في موقع آخر من المسؤولية أكثر أهمية وأكثر حساسية !! هكذا يكون الردع ، وتطبيق القانون من أجل القانون . وبالرجوع إلى قضية الدركيين الثلاثة بتنانت ، نستنج أنها لم تخضع هي الأخرى على غرار الكثير من مثيلاتها في المغرب لمبدأ \\\" الردع من أجل ردع الرشوة \\\" ولكن وحسب حيثيات الموضوع وبعض قصاصات الساكنة من أصدقاء ومجالسي المتهمين المعتقلين خضعت لمبدأ ردع مشاكسة مستمرة تتمثل في عدم ( اقتسام المدخول اليومي مع الرئيس المباشر supérieur ) الذي يحرص على تطبيق \\\"حكمة الرؤساء المباشرين في المغرب \\\" : je mange tu manges ,il mange tu manges,nous mangeons tu manges,ils mangent tu manges . في حين يصر فيه الآخر على الاستفراد \\'\\'بالكاميلة \\'\\' .إن مثل هذا السلوك هو الذي يجب أن تعمل الدولة المغربية على محاربته بشكل فعال ، وهي لاتحتاج إلى اقتراحات من أحد في ضبط ميكانزمات وتفعيل آليات الردع والمحاربة . فالمحاكمات التي تعد نتيجة لمبدأ \\\" الحسيفة\\\" وعدم إرضاء طرف من الأطراف ، لاتفتأ تغدوا محاكمات غير عادلة ، لأنها لا تخضع كما أسلفنا لمبدأ الردع من أجل ردع الرشوة وحبا في عيون تطبيق القانون كما هو . 4 نعم للمقاربة الاجتماعية تم القبض على المتهمين يوم الأربعاء 25/11/2009 أي قبل الاحتفال بعيد الأضحى بثلاثة أيام فقط ، وقد سألنا الجزار الذي تكفل بنحر أضحية أحد المقبوض عليهم، فأخبرنا بأن الوضع كان كارثيا أن مراسيم الذبح والسلخ تمت كما لو كان الأمر يتعلق بمأثم ... لا أعتقد أن المجتمع الذي حول المؤسسة السجنية من جهاز قمعي وردعي إلى مؤسسة إصلاحية إدماجية ، وقام في السنوات الأخيرة بتمتيع السجناء بعدد من الحقوق كإقامة الحفلات داخل السجون وتنظيم مختلف المسابقات ، والسماح لبعض السجناء بزيارة الأهل و الأحباب يوم عيد الأضحى ...الخ ، لا أعتقد أن هذا المجتمع سيرضى أن يحرم أب قبل يومين من عيد الأضحى من مشاطرة أسرته فرحة العيد ، وهو متهم في قضية بديهية ، وكأن الأمر يتعلق بالخيانة العظمى أو ملف خطير يمس بسيادة الوطن !!.إن استحضار المقاربة الاجتماعية في هذا الصدد ، وفي مثل هذه النوازل أمر ضروري ، إذ يجب التفكير في الانعكاسات النفسية الخطيرة لماوقع لأسر هؤلاء الدركيين . فالمسمى ب.ه ، تعرضت زوجته يوم العيد لصدمة نفسية كبيرة ورضيعها لم يتجاوز بعد سنة واحدة . كما أن ابن المسمى م.ش ،وهو تلميذ ممتاز بثانوية الزرقطوني بتنانت ، لم يحصل في الفرض الكتابي الأخير سوى على نقطة 5/20 في مادة الفرنسية ، بعدما كان قد حصل في الفرض الأول على 18/20 ! والسبب واضح. إن المؤسف أكثر، هو أن يؤمر رجل أمن كيف ماكان نوعه بإزالة زيه العسكري بصفة نهائية لمجرد رشوة على الطريق مألوفة لدى الجميع ، بعد أن قضى حوالي 15 سنة من الخدمة في مهنته ! لأن هذا الشخص إنسان معرض للخطأ كغيره من سائر البشر ، والخطأ كما الخطيئة ، من طبيعة إنسانية ، ولا أعتقد أن مجرد تهمة بهذا النوع من الرشوة سيدفع المحاكم العسكرية إلى تطبيق عقوبات صارمة من هذا القبيل ، يخسر فيها الشخص عمرا طويلا من حياته فيقعد ملوما محسورا! . أكرر مرة أخرى ، أن الغاية مما نكتبه ليس هو الدفاع عن زيد أو عمر ، أو تشجيع لرذيلة إسمها الرشوة ، ولكنه تحليل بسيط لظاهرة تكررت في العديد من مناطق المغرب (طانطان ، الحسيمة ...)، وفيه ندعو المؤسسات المعنية إلى تطوير آليات اشتغالها وتعاملها في ملفات من هذا القبيل ، باستحضار المقاربات العلمية ( التكوين المستمر )، والاجتماعية والاقتصادية ، لأن المغرب دولة تراهن في مطلع هده الألفية على قوة المؤسسات من خلال تطوير أدائها وجودة حكامتها بصفة شمولية ، خدمة للوطن والمواطن.