سگان آيت عبدي يروون مغامرة زحفهم على ثلوج الجبال للاحتجاج بالرباط مجتمع معزول وسط الثلوج له محاگمه وأعرافه بعيدا عن السلطة المرگزية خرجت قبيلة آيت عبدي في مسيرة فوق الثلوج وقمم الجبال نحو أزيلال، قبل أن تصوب وجهتها إلى الرباط بحثا عن «طريق سالك» يخرجها من رقعة جبلية مغلقة حولت سكانها إلى مجتمع عجائبي يجهل كل شيء عن تفاصيل المجتمع الذي يعيش حضارته خلف الجبال. العديد من أفراد القبيلة لم ير السيارة قط. أهالي يفكون مشاكلهم بواسطة محاكم في الهواء الطلق، قضاتها هم أفراد القبيلة وقوانينها من العرف المحلي. آيت عبدي تلهج لغة أمازيغية. ما أن يتمكن أحد أفرادها من الافلات من مخالب جبالها حتى يجد نفسه يلهج لغة تختلف في كثير من كلماتها عما يتداول ما وراء تلك الجبال. يتسلقون الجبال على مدى ثلاثة أيام لكي يبلغوا زاوية أحنصال أقرب سوق إليهم. ينقلون من اشتد مرضه أو الحامل التي تأخر وضعها على نعوش الموتى ليسيروا بها مسيرة ثلاثة أيام نحو وارزازات. كان لابد من الاقتراب من سكان آيت عبدي للاطلاع عما احتفظت به ذاكرتهم من تفاصيل مسيرة الألم التي تسلقوا خلالها الجبال للمطالبة بالطريق. حديث المسيرة وما بعدها كانت الرحلة إليهم من أزيلال بعد يومين من تصيد وسيلة نقل تقبل بالسير نحوهم على الأقل بزاوية أحنصال. سيارة لم يتم تصيدها إلا بقرية آيت امحمد بعيدا عن أزيلال بحوالي 30 كلم، وهي سيارة رباعية الدفع ستنتهي رحلتها بزاوية أحنصال مغرب ذلك اليوم بعدما سارت فوق الجليد على مدى خمس ساعات، سيارة بلا كوابح، إطاراتها امحت، وتعددت أعطابها، لكن كان الأهم هو الالتقاء ببعض هؤلاء المغامرين بآيت أحنصال كما اتفق. كانت الفكرة متمحورة حول التنقل إلى آيت عبدي رفقة عينة منهم انطلاقا من زاوية أحنصال لمعاينة الواقع عن قرب، لكن المفاجأة كانت أقوى: التنقل لهذه المنطقة مغامرة غير مأمونة العواقب، تلزم ارتداء جلبابين وجوارب «مرقعة» غليظة وحذاء بلاستيكي طويل (بوط) والتوفر على «بغلة» مع النزول كل مرة لمساعدتها على تسلق الجبال، نظرا لغياب أدنى منفذ سالك. وبالإضافة لذلك تتطلب الرحلة ثلاثة أيام يتخللها النوم والاستراحة أثناء المسير، والرحلة خلال هذه الأيام أكثر ضراوة لأنها تتطلب مقاومة الثلوج التي تختفي فيها الأرجل حتى حدود الركبة... «لن ندفعكم لهذه المغامرة خلال هذه الأيام» يقول بصرامة الشيخ موحا بويسليخن، ولتوضيح أسباب ذلك فتح موحا الزوري ذو ال 78 سنة، وهو ممثل سكان آيت عبدي بجماعة زاوية أحنصال منذ 1983 إلى اليوم، ملف ضحايا الثلوج فقد توفي اسعيد أوحساين نايت الصغير والكبير موحا وأوبيحا حدو واعلي من آيت تافراوت وعلي الزهواني من دوار تيناتامين وفاطمة توس... لائحة طويلة من الذين فاجأهم المطر وابتلعتهم عاصفة ثلجية مفاجئة بينما كانوا قادمين من رحلة التبضع من أسواق بعيدة ينبعي السفر إليها زحفا فوق الجبال، رحلة شاقة يقطعها بدوره اسعيد موغناس الذي قارب الستين لكي يمثل دائرته في المجلس الجماعي. وسط طبيعة ارتدت البياض من كل جانب تم الاتفاق على الحديث بزاوية أحنصال على هدي نور قارورة الغاز. كانت رحلتهم القاسية مناسبة لفتح تاريخ هذه الحياة الضنكى التي يعيشون فيها مثلما عاشها أجدادهم، كما كانت مناسبة لتقليب كل المواجع التي مروا منها بدءا بتاريخ المقاومة خلال ثلاثينيات القرن الماضي وكيف نسق بعض أجدادهم مع محمد الخامس، واتفقوا على عدم «وضع أصبعهم» على تولية بن عرفة بمقهى ريال بالرباط سنة 1954. يتحدثون عن مرحلة الاستقلال وكيف أن هذه المنطقة التي قدمت شهداء لم تستفد من أي شيء. يحكون بمرارة أن المنطقة ظلت محرومة, حتى من طريق سالك، لذلك يلزم من يرغب في الخروج إلى سوق زاوية أحنصال أن يقضي ستة أيام بين الذهاب والإياب، لكي يقتني الشاي والسكر والطحين والتبن والشعير لدابته، ويعمل على تخزين جزء من هذه المقتنيات لأيام الصقيع القادمة التي تلزمه بعدم مبارحة «خمه» مدة شهرين. آيت عبدي عجائب وسط مركب جليدي اسعيد أوداد أحد أبناء ساكنة آيت عبدي الذن أسعفتهم الظروف ليعيشوا في ظروف أحسن بقليل من باقي أفراد قبيلتها. يعيش أوداد بزاوية أحنصال لكن قلبه دائما مع ذلك الربع الخالي الذي سقط به رأسه ذات يوم. يعتبر هذا الحنصالي ذاكرة شفوية حية لتاريخ المنطقة وبطولاتها وأمجادها، لذلك انبرى مع بعض أبناء قبيلته الذين شاركوا في المسيرة لتقليب مواجعها ومعاناتها. العديد من الساكنة ممن لا يستطيعون ركوب المعاناة يعيشون وسط هذه القبيلة التي شبهها أوداد ب«الباطو» الجبلي الذي يعيش داخله أهل آيت عبدي، فالمشكلة تكمن فيمن له القدرة على تسلق حواشي المركب لبلوغ المدشر، حيث يقبع بسطاء لا يعرفون أي شيء عن كثير من التحولات التكنولوجية التي يعرفها المجتمع، فهناك من لم ير السيارة قط، وسبق لبعضهم أن رأوا شاحنة ففروا عبر الجبال، يقول أوداد. بعدهم عن الحاضرة جعلهم يستقلون بقضائهم حيث إن أغلب القضايا يحسمون فيها وسط مجتمعهم المغلق في إطار محكمة في الهواء الطلق، وتسمى محكمة الضامن، وتتكون من فردين حكيمين يعينان من طرف المتشاجرين، بينما يعين شيخ القبيلة الشخص الثالث وهو الحكم الفيصل، ويتبوء الشيخ مكانة الرئيس وسط هذا المجتمع الذي يعتمد في معاشه على الرعي بعد استقراره بمنطقة آيت عبدي، فكل حكم يصدر عن هذه المحكمة يجب على المحتكمين الامتثال إليه، وإلا امتدت يد القبيلة نحوه وهاجمته. تتكون العائلة في هذا الوسط من الجد والآباء والأبناء، وتسمى روابط العائلة الدموية ب«لعظم» وكل قرار أو عمل تطوعي أو مسيرة ... يؤخذ فيه بعين الاعتبار هذا المعطى، والمسيرة الأخيرة التي شارك فيها 95 فردا بمعدل 8 أفراد ينحدرون من 12 «عظما» يوحدهم مع السلطات الإدارية شيخ القبيلة الذي يلزمه تسلق الجبال ثلاث ساعات لكي يصعد قمة جبل «أرودان» أو «تيكرضين» ليتلقف «الريزو» ويبلغ القائد بالأحكام الصادرة، وما يجري داخل «دويلته» فالطريق أساس كل مشاكل وعزلة أيت عبدي الجغرافية والثقافية. «أبريد أبريد أبرييييييييد أبريييد» هكذا بات طيلة ليلة اللقاء أحد المشاركين في المسيرة يردد ما معناه: لا نريد إلا الطريق، لأن الطريق هي كل مآسينا، فطوال الحديث معهم يمرون بمشاكل حقيقية مر الكرام رغم أهميتها كالتعليم والصحة وتحسين المعاش والماء الصالح للشرب، ليطلبوا من جديد «الطريق» فقد أنشئت بعض الحجرات المدرسية بهذه القبائل لكنها لم تعرف قط قدوم أي مدرس وتحولت إلى زرائب لقيلولة الأغنام والرعاة، أما دواء المرض فيتم اقتناؤه من الأعشاب الجبلية نظرا لحالة الفاقة التي يعيشون عليها وغياب صيدلية حتى بزاوية أحنصال. مريض آيت عبدي يداري أمراضه حتى الموت وإن اقتضى الأمر نقله لمستشفى، إذ يتم حمله فوق نعش الموتى الذي يصنع بشكل بسيط وهو على شكل عمودين خشبيين يوضعان بشكل متواز ويربطان بحبال على شكل شباك، يوضع فوقها لحاف يتمدد فوقه المريض أو المرأة الحامل التي تأخر وضعها، بعدها يحمل النعش أربعة أشخاص ليتوجهوا به نحو وارزازات حيث يوجد أقرب مستشفى من القبيلة، ويلزم مسيرة ثلاثة أيام وسط وعورة قمم الجبال. والبحث عن الماء لا تقل معاناته عما سبق ذكره حيث يلزم جلبه ما بين ثلاث ساعات وسبع ساعات، حسب سكنى كل عائلة، وعندما يتعذر إحضاره بسبب الثلوج أو عدم توفر من يحضره تضطر الأسر للتقشف فتستعمل أواني دونما حاجة لتنظيفها، أما طعام الأغلبية الساحقة فيقتصر على الخبز والشاي. ومن أجل ذلك تعمل الأسر على تخزين هذه المواد طيلة السنة تحسبا لمثل هذه الأيام التي تدخلها المنطقة والتي يصبح فيها الجليد سدا منيعا يحول دون التسرب نحو أقرب سوق غير محاصر «لماذا لا يتفقدوننا في مثل هذه الأيام، فيعملون على إسقاط مساعدات غذائية لهؤلاء، لم لا يتفقدوننا إلا عندما تقترب الانتخابات؟!» يتساءل أوداد متحسرا على وضع قبيلته التي تعيش العزلة والظلام والموت وإن كانت مصادر من داخل عمالة أزيلال تتفاءل بالمستقبل، مؤكدة أن الطريق بدأ شقها في إطار برنامج شمولي وأن 80 في المائة من مبادرة التنمية البشرية وجهت لهذا الغرض، وأن زاوية أحنصال ومعها آيت عبدي ستريان نور الكهرباء بالتدرج في إطار برنامج سيفك العزلة في البداية عن الزاوية خلال الشهور القليلة المقبلة. الحديث مع هؤلاء المنسيين بقدر ما يؤلم، يشد الانتباه لشيوخ في أرذال الأعمار يطوون الليالي ليبحثوا عن لقمة العيش لأبنائهم، وقد حولتهم حياتهم الصعبة لأشباح آدمية، تختلف لغتهم الأمازيغية المحلية حتى عن تلك التي يلهج بها ساكنو أزيلال في كثير من الألفاظ بالإضافة لاختلاف لكنتها. مجتمع حكم عليه ليعيش مغلقا منحبسا ومكتفيا بلغته ووسائل عيشه ومختلف مآسيه. وداع من جليد لا مجال للنوم لديهم. كان اللقاء بهم ليلا، وانتهى في نفس الليلة، فبعد مقاسمتهم الطعام كانت الساعة قد تجاوزت الثانية صباحا، رذاذ الثلوج يتساقط من الأعالي، برودة قاتلة تمزق الفضاء الذي يحوم بأحد الغرف العتيقة المؤرخة للوجود الفرنسي بالمنطقة، والتي احتضنت اللقاء. أربع ساعات حملنا الحديث خلالها لمنطقة لم نستطع أن نعيشها عن قرب بين سكان بعضهم أدمن على السير حافي القدمين، وتحول أخمص قدميه إلى ما يشبه الحذاء. كانت الساعة قد تجاوزت الثانية صباحا من ليلة يوم الأربعاء عندما دقت ساعة الرحيل، لا يمكن المبيت حتى الصباح لأن ليالي أخرى تنتظرهم. ارتدى الجميع جلابيبهم الاحتياطية وتدثروا باللحافات، ليقفلوا راحلين. محمد لحسن لا يتوفر على راحلة فاتخذ وجهة أكثر قربا وتعقيدا، سيتسلق الجبال وسيصل قبل وصول الممتطين، أما الشاب أمين محماد، وبويسليخن وعمران فسيركبون بغالهم وسيتحايلون على الجبال عبر الكثير من القمم والمنحدرات وسينامون عند معارفهم في الطريق كلما أدركهم الليل وإلا قضوا الليلة بين الصخور، أو داخل المغارات. انطلقوا جميعا وسط سحنة الليل التي لم تسمح بتفحص ملامح لحظة الوداع «سنهاتفكم إذا لم تحاصرنا الثلوج بآيت عبدي هذه الأيام» كانت آخر جملة نطقوا بها، لم تمض سوى دقيقة واحدة حتى اختفى صدى حفير دوابهم بعدما امتزج بخرير وادي زاوية أحنصال، لم يتبق سوى الالتجاء للمخبأ الفرنسي لقضاء جزء من ليلة استبدت آيت عبدي بجزء من خيالاتها. إدريس النجار الاحدات المغربية