الخميس, 25 شباط/فبراير 2010 09:54 كثير من أهل الشاوية عموما وأهالي منطقة بوزنيقة على الخصوص لا يعرفون أن بلدتهم أنجبت شخصية فنية عالمية فاقت كل المقاييس وتعدت كل الحدود. هذا الرجل خرق القاعدة التي كانت سائدة إبان الاستعمار وخلال مرحلة الاستقلال وهي أن الفاسيين أو غيرهم هم النخبة المتعلمة والمثقفة التي ينبغي أن تحتل الصدارة في كل شيء، فجاء فنانا الكبير ليثبت للجميع وأمام الجميع أن العقل البشري والنبوغ الفني لا لون ولا عرق ولا جنس له، خاصة في ظروف كتلك التي عاشها المرحوم العربي الدغمي، فكان الرجل إنسانا ومسرحيا وممثلا وسينمائيا، بل وسينمائيا عالميا، تقاسم الأدوار مع أعتى الممثلين العالميين. قد يجهل الكثير أن هذا الرجل، الذي ترجع جذور عائلته إلى قبيلة تسمى قبيلة الأحرار المنتمية إلى قبيلة كبرى تدعى قبيلة الأعراب، وهي حالية توجد بجماعة شراط بين مدينة بوزنيقة وابن سليمان، أحرز على ميداليتين ذهبيتين كأول ممثل مغربي وكأول مؤلف تلفيزيوني، هو من الفنانة الأوائل الذين وطأت أرجلهم التلفزة المغربية حين تأسيسها سنة 1962، وغي الوقت التي كانت تبث فيه برامجها ومسرحياتها بالمباشر لأنها لم تكن تملك الوسائل الحديثة والفنية للبث العادي كما يحصل الآن. يتذكر شقيقه "عبد العاطي الدغمي" أن "باعروب"، كما يحب أن يسميه أصدقاؤه ومحبوه المقربون، كان في هذه الفترة يكتري الديكورات والأثاثات من ماله الخاص ويحملها إلى التلفزة من أجل تشخيص أدواره المسرحية مباشرة على الهواء، مؤكدا أنه أبدع في زمن كان يقل فيه الإبداع.. كان على "العربي" أن يبدع في مجاله وتخصصه وأن يبدع أيضا في الحياة ليستمر في الوجود.. عائلة الدغامة ولد الراحل العربي الدغمي سنة 1931 بمدينة الرباط، كان الابن البكر لوالده المرحوم الحاج المفضل بن العربي الذي ينتمي لعائلة الدغمي. قدمت هذه العائلة إلى الرباط واستوطنتها كباقي الأسر الرباطية القادمة من الأندلس، وهي عائلة من أعرق وأقدم العائلات الموجودة بمنطقة بوزنيقة وما زالت بعض الشرائح من أفرادها وأبنائها موجودين بها وغيرها من المدن وبالأساس مدينة الرباط. لكن الدكتورعبد الحق التازي له وجهة نظر أخرى حول الأصول التاريخية لعائلة الدغمي، مؤكدا أنها "تنتمي إلى أسرة عربية توجد لها أصول في المشرق، وفي الجزيرة العربية، وفي صعيد مصر، تحمل اسم "دغيم".. ويضيف "التازي" أن الدغميين الموجودين في المغرب والذين ورد ذكرهم في وثيقة اسماعيلية ترجع لتاريخ 15 رمضان 1117 ضمن القبائل المغربية هم: الحصينية والصباحية والحارثية عندما اشترى المولى اسماعيل منهم المماليك الذين كانوا في حوزة القبيلة.. ولا يستبعد الدكتور التازي أن يكون لهذه القبيلة صلة بقبيلة "دغيم" الموجودة الآن بالجزير العربية.." على كل حال، فإن اسم الفنان الراحل يدل على جذوره التاريخية، فاسمه "العربي"، وفيها ما فيها من تلك المعاني التي ذكرها التازي، ولقبه الدغمي، وهي كلمة ليست غريبة عن الجذور التركيبية للغة الضاد. المهم في كل هذا هو ما قاله "عبد الحق الدغمي" أخ المرحوم: "إن عائلة آل الدغمي مشهورة بالكرم والجود والتقوى وحب الوطن كما أن أبناءها يتميزون بالنكتة والعشرة الطيبة وقد توارث أبناؤها هذه الخصال أبا عن جد مما جعلهم يحظون بمحبة الجميع". وربما يتذكر تلامذة إعدادية ماء العينين حارسها العام "محمد الدغمي"، أخ الراحل، الذي بدوره كان أبا للتلاميذ ومنشطا مسرحيا بالإعدادية.. عمق تربوي وديني اجتمعت في "العربي الدغمي" عراقة النسب أيضا من جهة الأم، فهي الحاجة "ربيعة بن التهامي ملين" تنتمي لأسرة آل ملين، الأسرة عريقة النسب والحسب في المغرب. وقد اعتنت هذه المرأة بالفنان الراحل وأنشأته على الأخلاق الحسنة والتربية الحسنة، فتوجه "العربي" منذ الصغر إلى الاشتغال بحفظ القرآن الكريم. فوالدته "ربيعة" هي أيضا تربت، بعد وفاة أبيها مبكرا، في عائلة أسرة آل بناني وكبرت في منزل سيدي فتح الله بناني الذي ينتمي إلى الزاوية الدرقاوية. تتلمذ الفنان على يد مجموعة من الفقهاء الرباطيين وعلى رأسهم "الفقيه "محمد بن محمد الجيلالي الأزرق"، فقيه تعلم على يده كثير من سكان المدينة القديمة بالعاصمة المغربية، أيام الاستعمار الفرنسي. ويبدو أن التربية الدينية السليمة للفنان تتنتج فنانا عملاقا كالعربي الدغمي، وهذا دليل قوي على أن الفن في عمقه هو التزام بالمبادئ والأخلاق. وبالرغم من أن فناننا قد رحل إلى دار الآخرة، إلا أن سيرته وأخلاقه وإنسانيته وإيمانه تكشف حاليا عن الرداءة والمسخ الفني الذي وصل إليه بعض المحسوبين على الفن اليوم. "باعروب" كوميدي بالفطرة من عاشر "باعروب" في الفترة التي كان يتعلم فيها عند الفقيه "محمد بن محمد الجيلالي الأزرق"، يقول إن ملامح شخصيته الفنية والكوميدية بدأت في التشكل منذ هذا التاريخ، فقد كان رحمه الله، في أوقات الاستراحة من الفصل الدراسي، يقوم بتقليد حركات معلمه في كل شيء، ويستمتع زملاؤه بنكثه وروحه المرحة. وقد عرف ببراعته في التقليد بشهادة أصدقائه في تلك الفترة. لم يكن طفلا عابثا أو طائشا، فحتى في هذه الفترة من عمره ورغم سنه المبكر، فقد تحمل أيضا مسؤولية الإشراف على تعليم إخوته الصغار والسهر على تربيتهم، وبالفعل فالكل يشهد الآن على أن أبناءه وإخوته وأقاربه يتميزون أيضا بدماثة الأخلاق وحسن السيرة. للعربي أيضا نصيب من التعليم العصري، فقد التحق بالمدرسة المحمدية حيث تلقى تعليمه الابتدائي على يد مجموعة من الأساتذة الوطنيين. والتحق فيما بعد بمدارس محمد الخامس بالرباط، وفي كل محطة تتجلى روح الكفاح عنده، كفاح لازمه طيلة حياته وحتى في فراش مرضه، فيذكر أنه كان في فترة تعليمه الثانوي يتابع دراسته وفي الوقت نفسه يقوم بدور معلم مساعد بمدرسة سيدي القجيري بالسويقة بالرباط، لمساعدة أسرته على أعباء الحياة والمعيشة. وبرزت ملامحه الفنية كذلك خلال هذه الفترة، فقد كان "العربي" يلقي الخطب ويؤدي الروايات في حفلات نهاية السنة الدراسية. ومن الأحداث التي يسجلها له التاريخ أن الراحل كان محبا التخييم، وشاءت الصدف أن يزور محمد الخامس وابنه الحسن الثاني سنة 1952 مخيم الجمعية المغربية لتربية الشبيبة ب"رأس الماء"، حيث حضروا السهرة التربوية التي أقامها أطر وأبناء المخيم، وهي فرصة رأى فيها الفنان ملك البلاد وقبل يديه. الدغمي المناضل كما يذكر إخوته الذين عاشروه، فقد انخرط العربي الدغمي في صفوف الحركة الوطنية وبالضبط ضمن جماعة الفتح رقم 1 وهي الخلية الحزبية للسويقة بالمدينة العتيقة. والتحق بعدها بهيأة المسامرين الحزبين حيث كان ينشر الوعي الوطني والسياسي، آنذاك في صفوف خلايا المواطنين ويقوم بتوعيتهم وتحفيزهم لخدمة القضية الوطنية. وبذلك يعتبر العربي الدغمي من رواد الحركة الوطنية الكبار، وقد استغل الفن لتمرير خطاباته السياسية ضد المستعمر. في هذه الفترة يقول الفنان المرحوم عن نفسه:"لاقينا من المستعمر الفرنسي المضايقات سواء قبل العروض (المسرحية) أو بعدها، وتحملنا وتحملنا، لكن في سبيل بعث الروح الوطنية ونشر الوعي والثقافة وتمتين عرى المحبة والفداء.." مرة أخرى يعطي "الدغمي" نموذجا رائعا في التضحية والنضال، ومثالا للفنان الملتزم بقضايا بلاده ومصير أمته، وقد حدث أنه في فترة الاستعمار امتنع هو وزملاؤه من أداء بعض العروض المسرحية التي كانوا يتجولون بها في ربوع الوطن كله. ويقدم فنانا المرحوم الدليل تلو الآخر على أن الفن قبل كل شيء هو التزام وليس انهزام، مقاومة وليس مساومة، وليس كما يحصل عند البعض اليوم، حيث أصبحت الأسبقية للدولار قبل كل شيء.. نبوغ وطني الحقيقة أننا حاولنا أن نحيط بكل الأعمال الفنية للمرحوم العربي الدغمي فوجدنا أنفسنا أننا غير قادرين على حصر ذلك في بعض السطور أو حتى صفحات بل حتى مجلدات. فقد كان الرجل عملاقا فنيا بكل المقاييس.. ويذكر في هذا الباب أن الفنان المغرب المحجوب الراجي قدم في إحدى المناسبات، وقد أعجب الراحل بذلك كثيرا، عملية إحصائية لعمل الفنان العربي الدغمي. وحسب الفنان الراجي، فإن "باعروب" شارك في 3920 تمثيلية و210 مسلسل و240 مسرحية تلفزيونية، وإذا تم جمع كل ذلك، فإنه يساوي 40 ألف صفحة، أي 160 مجلدا.. وهي بطبيعة الحال إحصاءات تغني عن كل محاولة للوقوف بدقة عن الإنتاج الحقيقي للدغمي. ومع ذلك سنقف على بعض المحطات الإبداعية البارزة في حياة العربي الدغمي الفنان والإنسان. ففي سنة 1952 التحق بمعهد الأبحاث المسرحية بالرباط، وفي 1953 تكونت فرقة المسرح الوطني المغربي، وكان من ضمن العاملين بها مع الممثلة خديجة جمال وأحمد طيب لعلج.. وفي بداية تشخيصه المسرحي شارك في مسرحيات مثل "سكابان" و"حلاق اشبيلية" و"عمي الزلط". وسنة 1954 التحق بفرقة الإذاعة المغربية إلى جانب الممثلة أمينة رشيد وحبيبة المذكوري" وحمادي عمور وحمادي التونسي.. وقد كانت له البطولة في جل العروض الفنية بالإذاعة المغربية.. في بداية الاستقلال التحق بمدينة الفن والعرفان بباريس وتلقى دروسا في الفن على يد الأستاذ الكبير "ديكرو"، هذا الأخير كان أستاذ لفنان العالمي الكبير "مارسيل مارسو". شارك "الدغمي" في أول شريط سينمائي له تحت اسم "الطبيب بالعافية"، وقد شاركه في التمثيل الفنان المصري كما الشناوي، وقد عرض هذا الفيلم في جميع أنحاء المغرب. كان العربي من سنة 1956 إلى سنة 1958 كان أستاذا لفن الإلقاء بمدرسة التمثيل التابعة لمعهد الأبحاث المسرحية بالشبيبة والرياضة، وعمل المرحوم كمشخص للعديد من الأدوار في كثير من البرامج والروايات المغربية والأجنبية، بعد تأسيس التلفزة المغربية سنة 1962. كتب المرحوم سنة 1972 أول سيناريو له رفقة "عبد الرزاق حكم" تحت عنوان "أربعة عشر قرنا بعد محمد صلى الله عليه وسلم" وهو إنتاج مشترك بين السعودية والمغرب، وقد اغتنم الفنان صحبة زوجته الفرصة لأداء مناسك الحج أثناء تصوير الفيلم، وقد زار في هذه الفترة كل من لبنان و سوريا ومصر وتونس.. نبوغ عالمي كانت سنة 1975 هي البداية الفعلية لانطلاقة السينمائية للعربي الدغمي، حيث شخص دور "أوتا" وهو ملك أفغاني في فيلم عالمي للمخرج الكبير "جون هيستون" الملقب بأسد السينما، ومثل مع ممثلين كبار من أمثال "كونوري" ومايكل كين" و"كريستوفر بلومر"، وقد كان هذا الشريط بمثابة باب السعد وفاتحة خير له. وبعد هذا الفيلم لعب الدغمي أدوارا بطولية في أشرطة سينمائية عالمية، مثل دور مدير فندق في شريط "نبي الله عيس" للمخرج الإيطالي المشهور "زيفيرلي". يقول العربي الدغمي عن نفسه في تلك الحقبة من عمره: "في سنة 1982 كان لي أيضا شرف العمل مع المخرج المسرحي والسينمائي المغربي الأستاذ نبيل لحلو للقيام بدور البطولة في فيلم "إبراهيم ياش" الذي افتخر به واعتز بدوري فيه فقد كان جزء لا يتجزأ من روحي ووجداني.." وقد استمر في التألق العالمي إلى بداية التسعينات، ولم تقف قريحته عن الإبداع والعطاء إلا عندما استسلم لفراش المرض. وكافح طيلة حياته بإمكانيات متواضعة جدا لينحت اسمه وصورته في الأرشيف السينمائي العالمي. رؤية الرسول مات العربي الدغمي في شهر أكتوبر 1994، وقد عانى من أمراض عديدة كمرض القلب والكلي والسكر. الذين زاروه بمستشفى ابن سينا يتذكرون جيدا رقم الغرفة 329، التي كان يتعافى بها.. عاش شهما ومات شامخا يقول عنه أصدقاؤه وأقرباؤه أنه طيلة مرضه "لم ينشر بيانا يطلب فيه المساعدة ولم يبك أمام الكاميرا ليستدرج عطف أحد". يحكي عبد الرحمن الكرومبي (أحد أصدقاء المرحوم) على لسان العربي الدغمي: رأيت الرسول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهو يحمل طفلا صغيرا بين يديه فتوجهت إليه قائلا: يا رسول الله إني لا أسألك متاعا ولا أسألك دنيا وإنما أسألك مغفرة الذنوب" فأجابني الرسول صلى الله عليه وسلم: إنها مغفورة إنها مغفورة إنها مغفورة.. وانتم الأعلون والله معكم ثلاث مرات، فأخذته من كتفه وقلت وأنا أبكي: صلى الله عليك وعلى آلك وسلم ثلاث مرات.. يذكر محبو العربي الدغمي أنه كان دائما يردد عبارة "إذا ردك البخيل عند الكريم تبات"، عبارة علق عليه الفنان حسن الجندي قائلا: عبارة يصدح بها العربي الدغمي "إيمانا بأنه سبحانه وتعالى أرأف بالمظلومين مهما عظم حجم الظلم المسلط عليهم". عمر العمري