ينطلق الحزب مع قوله تعالى: (قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ، قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) الحزب الثاني عشر يكشف القرآن الكريم عن جبلة اليهود التي تبدو على حقيقتها، مكشوفة بلا حجاب. ذلك أنهم أمام الخطر، فلا بقية إذن من تجمل، ولا محاولة إذن للتشجع، ولا مجال كذلك للتمحل. فهم(اليهود) يريدونه نصرا رخيصا، لا ثمن له، ولا جهد فيه. نصرا مريحا يتنزل عليهم تنزل المن والسلوى! لكن تكاليف النصر ليست هكذا كما تريدها يهود! وهي فارغة القلوب من الإيمان! ويبرز الله عز وجل قيمة الإيمان بالله، والخوف منه، فهذان رجلان من الذين يخافون الله، ينشيء لهما الخوف من الله استهانة بالجبارين! ويرزقهما شجاعة في وجه الخطر الموهوم! وهذان هما يشهدان بقولتهما هذه بقيمة الإيمان في ساعة الشدة، وقيمة الخوف من الله في مواطن الخوف من الناس. فالله سبحانه لا يجمع في قلب واحد بين مخافتين:مخافته - جل جلاله - ومخافة الناس، والذي يخاف الله لا يخاف أحدا بعده، ولا يخاف شيئا سواه. (ادخلوا عليهم الباب. فإذا دخلتموه فإنكم غالبون).. قاعدة في علم القلوب وفي علم الحروب: أقدموا واقتحموا. فمتى دخلتم على القوم في عقر دارهم انكسرت قلوبهم بقدر ما تقوى قلوبكم، وشعروا بالهزيمة في أرواحهم وكتب لكم الغلب عليهم. فعلى الله - وحده - يتوكل المؤمن. وهذه هي خاصية الإيمان وعلامته، وهذا هو منطق الإيمان ومقتضاه. ومن هذا الحزب نستخلص قصة ابني آدم والقصاص حينما قربا قربانا، فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر. هذه القصة تقدم نموذجا لطبيعة الشر والعدوان، ونموذجا كذلك من العدوان الصارخ الذي لا مبرر له. كما تقدم نموذجا لطبيعة الخير والسماحة، ونموذجا كذلك من الطيبة والوداعة. ووقوفهما وجها لوجه، كل منهما يتصرف وفق طبيعته، وترسم الجريمة المنكرة التي يرتكبها الشر، والعدوان الصارخ الذي يثير الضمير، ويثير الشعور بالحاجة إلى شريعة نافذة بالقصاص العادل، تكف النموذج الشرير المعتدي عن الاعتداء، وتخوفه وتردعه بالتخويف عن الإقدام على الجريمة، فإذا ارتكبها - على الرغم من ذلك - وجد الجزاء العادل، المكافىء للفعلة المنكرة. كما تصون النموذج الطيب الخير وتحفظ حرمة دمه. فمثل هذه النفوس يجب أن تعيش. وأن تصان، وأن تأمن، في ظل شريعة عادلة رادعة. الحزب الثالث عشر (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ) ثناء على النصارى الذين دخلوا في الإسلام هنا تقديم اليهود على الذين أشركوا في صدد أنهم أشد الناس عداوة للذين آمنوا، وأن شدة عداوتهم ظاهرة مكشوفة وأمر مقرر يراه كل من يرى، ويجده كل من يتأمل! فقد واجه اليهود الإسلام بالعداء منذ اللحظة الأولى التي قامت فيها دولة الإسلام بالمدينة. وكادوا للأمة المسلمة منذ اليوم الأول الذي أصبحت فيه أمة. وتضمن القرآن الكريم من التقريرات والإشارات عن هذا العداء وهذا الكيد ما يكفي وحده لتصوير تلك الحرب المريرة التي شنها اليهود على الإسلام وعلى رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى الأمة المسلمة في تاريخها الطويل، والتي لم تخب لحظة واحدة قرابة خمسة عشر قرنا، وما تزال حتى اللحظة يتسعر أوارها في أرجاء الأرض جميعا. لقد عقد الرسول الكريم عند مقدمه إلى المدينة، معاهدة تعايش مع اليهود، ودعاهم إلى الإسلام الذي يصدق ما بين أيديهم من التوراة، لكنهم لم يفوا بهذا العهد - شأنهم في هذا كشأنهم مع كل عهد قطعوه مع ربهم أو مع أنبيائهم من قبل، حتى قال الله فيهم:(ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون. أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم . بل أكثرهم لا يؤمنون. ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون) ولقد أضمروا العداء للإسلام والمسلمين منذ اليوم الأول الذي جمع الله فيه الأوس والخزرج على الإسلام، فلم يعد لليهود في صفوفهم مدخل ولا مخرج، ومنذ اليوم الذي تحددت فيه قيادة الأمة المسلمة وأمسك بزمامها محمد رسول الله. فلم تعد لليهود فرصة للتسلط! ولقد استخدموا كل الأسلحة والوسائل التي تفتقت عنها عبقرية المكر اليهودية، وأفادتها من قرون السبي في بابل، والعبودية في مصر، والذل في الدولة الرومانية. ومع أن الإسلام قد وسعهم بعد ما ضاقت بهم الملل والنحل على مدار التاريخ، فإنهم ردوا للإسلام جميله عليهم أقبح الكيد وألأم المكر منذ اليوم الأول. ولقد ألبوا على الإسلام والمسلمين كل قوى الجزيرة العربية المشركة، وراحوا يجمعون القبائل المتفرقة لحرب الجماعة المسلمة:(ويقولون للذين كفروا:هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا). عبد الغني بوضرة