يكاد سكان قرية أجلموس بضواحي مدينة اخنيفرة يستأنسون مع الأحداث الدامية المتوالية منذ سنوات، أبطالها مشعوذون ذبحوا أطفالا وقدموهم قربانا للجن لأجل استخراج الكنوز من باطن الأرض، جرائم بشعة ذهب ضحيتها عشرات الأطفال في عمر الزهور، تاركين وراءهم جروحا لم تندمل بعد، آباء وأمهات ظلت قلوبهم تعتصر أسى وحزنا وجراحا عميقة على فقدان فلذات أكبادهم، من هؤلاءالسيد عبد الله آيت بوصحيب، الذي ذهب ابنه عتيق ضحية دعوى استخراج الكنوز منذ 7 ماي1999 . غبار وازدحام لتصل إلى قرية أجلموس انطلاقا من مدينة اخنيفرة، عليك أن تقبل بركوب سيارة أجرة كبيرة من نوع بوجو 504 ، سيارة مهترئة، الغبار يصعد من تحتها، والبرد يتسلل من لجنباتها، ليس لك خيار في ركوب غيرها، فأنت مجبر أن تركب إلى جانب أكثر من عشرة ركاب رغم أن الرخصة لا تسمح إلا بستة ركاب، وإذا أردت أن يطبق القانون فعليك أن تنتظر السراب، «لا يوجد هنا شيء إسمه القانون، اصعدي السيارة وإلا ستنتظرين اليوم كله» بهذه الكلمات أجابني الشخص المكلف بتنظيم عملية انطلاق سيارات الأجرة الكبيرة الكورتيي ، أما إذا تكلمت مع السائق عن عدد الركاب غير القانوني فيجيبك بقوله: «احْنَا هْنَا شِي كَيَاكْلْ مِنْ شِي، كُلْ وَاحْدْ وْنَصٍيبو مِنْ هَادْ الفْلُوسْ.فما عليك إلا أن تسلم أمرك لله وتمتطي السيارة وأضلاعك تكاد تتداخل من شدة الزحام. أيادي خفية سعت لطي ملفه تبعد قرية أجلموس عن مدينة اخنيفرة بحوالي 32 كيلومترا، وهي منطقة فلاحية تختزن ثروة فلاحية مهمة، تقع في جبال الأطلس، وإسم أجلموس إسم أمازيعي يعني «قب الجلباب»، الجلباب حمل داخله مأساة ذهب ضحيتها طفل في عمر الزهور يسمى عتيق آيت بوصحيب، اختفاؤه منذ سنة 1999 جعل أباه يعيش حياة لا تطاق، يقول والد عتيق: «تقدمت بشكاية للنيابة العامة بابتدائية اخنيفرة ملف عدد 440 بتاريخ 29 ماي 1999 حول مصير قضية اختطاف وذبح ابني لاستخراج كنز حسب ماعلمته، وتشير إليه تصريحات الشهود مصادق عليها من طرف الجماعات المحلية، وأطالب الجهات المسؤولة باستكمال البحث والاستماع للشهود والعثور على الجاني». عبد الله، وهو يشغل مهنة حمال بعد أن كان خياطا، يجزم بأن أياد خفية سعت لطي ملف ابنه، لم يفارق الحزن بيته في شهر الرحمة والمغفرة، فلم يجد بدا من أن يرفع يديه إلى رب العزة سائلا إياه أن يظهر الحق ويعاقب المجرمين الذين مثلوا بجثة ابنه الصغير عتيق، الذي لم يتعد عمره ست سنوات، أم الطفل ماتزال متأثرة من شدة الصدمة، تعب الأب المسكين من توجيه الشكايات المتتالية، وكله أمل أن إحداها لا بد أن تصادف يوما ما قلبا رحيما يرق لحاله وينصفه بالضرب على أيدي المعتدين، فيخلصه من الألم الذي يعتصر قلبه، ويوفر عنه دراهم كتابة ونسخ الشكاوى. ما زلت خائفا على أبنائي الألم أصبح ملازما لآيت بوصحيب من فقدان ابنه الذي لم يقم له عشاء عزاء، ولم يضعه بيديه تحت الثرى ليزور قبره ويرسل له دعوات الرحمة والمغفرة، وأمه حليمة دقال ماتزال مريضة من جراء صدمتها، لو مات أمامها لذرفت دموعا غزيرة عليه ورضيت بالقدر، أما والحال غير ذلك فما تزال صورته لم تفارق ذاكرتها، فقدان الأسرة لفلذة كبدها، جعلها ترحل بعيدا إلى مدينة الرباط، وتمكث أكثر من سنتين تتسول لتوفير لقمة العيش، وفي الوقت نفسه وضع ملف الابن بكل تفاصيله لدى مدير الديوان الملكي، شكايات عديدة أرسلها للوزراء وجهات عليا، اعتصم أمام قبة البرلمان ووزع صور ابنه في كل مكان، ذاق حياة التشرد بدون رضى بحثا عمن ينصفه، يقول آيت بوصحيب والحسرة تعلو محياه: « ما أريده هو أن أحصل على جثة ابني، و أطالب بإجراء بحث دقيق في الموضوع لإدانة الفاعل الحقيقي، فأنا مازلت أنتظر من ينصفني، ويخلصني من مأساتي»، ويضيف عبد الله ومسحة البؤس البادية على ملامحه تدعو إلى الشفقة: «ما زلت خائفا على أبنائي مادامت حقيقة اختفاء ابني لم تظهر». مربي الأطفال بائع للخمر بوعزة أمحدوك، رجل نحيف الجسم، يرتدي ملابس بالية، يظهر عليه الاضطراب النفسي، يبلغ من العمر41 سنة، حالته تثير الشفقة لدى كل من يملك بين جنبيه قلبا من لحم ودم، يحكي عن علاقته بالطفل بوصحيب قائلا : « كنت أدرس الطفل عتيق بوصحيب بكتاب قرآني، ومنذ أن قتلوه وأنا في عذاب» يتابع أمحدوك كلامه المصحوب بالدموع موضحا آخر لقاء له بتلميذه: «في يوم 7 ماي ,1999 خرج الأطفال كعادتهم على الساعة الحادية عشر والنصف صباحا، حسب أوامر مفتش التعليم الأولي، وحوالي الساعة الثانية عشر بعد الزوال فوجئت بمجيء أبيه مخبرا إياي باختفائه». منذ اختفاء الطفل وأمحدوك مفلس، إذ هرع الآباء لمسؤول الكتاب (المدرر) طالبين منه أن يتكلف بإيصال الأطفال إلى بيوتهم، نزل الطلب كالصاعقة عليه، فهو مخير بين أمرين بين أن يوصل الأطفال، وهذا أمر يستحيل لكثرة عددهم، أو أن يوصد باب «الكتاب القرآني» ويبحث عن مورد آخر يسد به رمق أسرته الصغيرة، اختار أمحدوك الخيار الثاني فأخطأ الطريق، إذ توجه إلى بيع الخمر لتلقي به هذه المهنة في غياهب السجن، وبعد الإفراج عنه امتهن بيع السجائر بالتقسيط. حالة أمحدوك المتدهورة صحيا وماديا جعلته يطلق زوجته، لتغادر البيت رفقة طفلين، يتحدث أمحدوك عن وضعه وهو يبكي بكاء مريرا، اضطررنا معه مرات عديدة للتوقف عن سؤاله حتى تجف دموعه : «لم أكمل دراستي الجامعية تخصص شعبة الفيزياء والكيمياء، إفلاسي جعلني أطلق زوجتي التي أخذت معها ابني، وعندما أتذكر هذا الوضع تسود الدنيا في عيني». ما يزال أمحدوك يحمل السجائر في علبة الترس، مناديا على المدخنين لاقتنائها بعد أن فشل في توفير مورد مادي والحفاظ على عش الزوجية، وهو غير راض على ماآلت إليه أوضاعه فهو يعشق التدريس ولم يتصور يوما أن يصبح بائعا لالديطاي. الجريمة وخيوط العنكبوت سكان الكعيدة أحد أحياء قرية أجلموس يجمعون أن شخصا يدعى أوهميش هو من قام بتسليم الطفل بوصحيب إلى فقهاء من أجل تقديمه قربانا لاستخراج الكنز، تأكيد الناس خبر قتل ابنه في غابة أموكشيضن جعله يسعى للبحث عن كل شاهد يستطيع أن يوثق شهادته. بيدين تبدو عليهما أثار قسوة الحياة يمدنا آيت بوصحيب بشهادات أربعة شهود مصادق عليها من قبل السلطات المحلية، أولهم أحد أقارب المتهم يؤكد سماعه خبر تصفية طفل على يد فقهاء تناولوا وجبة العشاء بمنزل المدعو أوهميش، وقال في شهادته : «أمامي عيرت زوجة أوهميش زوجها بجريمته النكراء التي تم ارتكابها والأشخاص المختطفين للطفل ضحية الاغتيال، وبعد أيام قلائل تم العثور على بقايا جسم الطفل وقد افترستها الكلاب الضالة، لقد صرحت أمام وكيل جلالة الملك بهذه الأحداث بمحضر والد الطفل ضحية الاغتيال»، شهادات أخرى مماثلة تشير بأصابع الاتهام إلى شخص بعينه، غير أن المتهم مايزال يعيش حرا طليقا منذ وقوع الجريمة حسب ماروى لنا والد الضحية. بكلمات متقطعة تصحبها لهجة الإحساس بالقهر والظلم يقول والد عتيق: «لدي شهود أن أوهميش أقام حفل عشاء على شرف بعض المشعوذين وكان برفقتهم ابني الهالك ولقد عاينت مكان الجريمة رفقة رجال الأمن». وجوه حزينة تنتظر الخلاص وجوه حزينة وشاحبة تنتظر الخلاص من شبح السرقة وجرائم القتل البشعة، من هذه الوجوه، شيخ يدعى عمي بومسيس وجد ابنه البالغ من العمر 47 سنة مقتولا و مجردا من ثيابه، هذا الشيخ يتهم أسماء بعينها ويبين أن قتل ابنه لم يكن بدافع السرقة ودليله في ذلك أن ابنه لم تسرق أمواله بل ظلت كما هي ، خاصة أنه كان متوجها إلى أحد الأسواق الأسبوعية ليلا، ويتهم الشيخ أحد أصدقاء ابنه وإحدى النساء، وهي متزوجة، مؤكدا أنها صرحت أمام السلطات بأنها كانت تربطها علاقة زنى بالقتيل، وأن الهالك وجد مقتولا على بعد أمتار من بيت السيدة المعنية. بعض من التقيناهم يجزمون أن السلطات المعنية لم تتحرك بالشكل المطلوب لتعيد الأمن والأمل لسكان القرية، يعللون ذلك بوجود ملفات طالها الطي والكتمان وبقيت في رفوف المحاكم لم تعلن نتائجها بعد، وهذا يجعل الرعب يساورهم صباح مساء كلما توجه أبناؤهم للدراسة أو أرادوا اللعب خارج البيت، ومنهم من اختار اصطحاب فلذة كبده ذهابا وإيابا،حسب تصريحات بعض السكان. و كل من جالسناهم من سكان هذه البلدة الصغيرة يشددون بأن الضرب على أيدي الجناة نادرا مايكون في إقليم اخنيفرة، فيكفي أن تكون مقربا لأسماء معينة لتكون محجوبا عن أعين العدالة، إنهم يتطلعون إلى من يعيد البسمة لأمثال آيت بوصحيب وغيره، إنهم فقدوا الثقة في سلطات منطقتهم، لدرجة جعلت آيت بوصحيب يصيح بصوت عال وكأنه أصيب بحالة هيستيريا في آخر كلامه: «أنا مظلوم، لا أقبل أن تشرف سلطات اخنيفرة على التحقيق...أريد لجنة من الرباط...لقد تعذبت كثيرا منذ اختفاء ابني» واستطرد قائلا والدمع ينهمر من عينيه: «أنا عازم أن أذهب مرة أخرى لباب سيدنا». خديجة عليموسى