أقدم وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد توفيق على عرض معالم سياسته الكبرى الخاصة بتدبير الشأن الديني في مختلف مستوياته، وذلك في اجتماع المجلس الحكومي الأخير، وذلك بعد انتظار دام حوالي السنة منذ تعيينه في أكتوبر من السنة الماضية، وهو التعيين الذي اعتبره البعض بمثابة انقلاب ديني في المغرب، فإلى أي حد شكل هذا المشروع الإجابة الشمولية على اعتداءات 16ماي؟ وما العناصر المضافة التي حددها لتجاوز الاختزال الأمني الذي وسم ردود فعل بعض الفاعلين؟ وهل يقدم حلا لما يمكن اعتباره خللا في تدبير الشأن الديني يتجاوز تعديل بعض السياسيات للانخراط في مراجعة عميقة لمناهج التدبير والهياكل القائمة عليه بما يعيد تعريف موقع الوزارة في النسيج السياسي والاجتماعي الوطني؟ العناصر المعلنة بالعودة إلى مضامين العرض المقدم في اجتماع المجلس الحكومي ليوم الخميس الماضي، نجد أن الوزير حرص في عرضه على ربط توجهات المشروع بتنفيذ مقتضيات خطاب العرش الأخير وذلك من أجل توافق سياسة الدولة مع تعاليم الإسلام الصحيح والالتزام المذهبي والاختيارات السياسية للمغرب، كما أعلن عن أن من النقط المحورية في المشروع إعادة هيكلة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية وتأطير الشأن الديني عن قرب وإعادة إعلاء دور العلماء وتفعيله وإحداث مديرية خاصة بالمساجد واتخاذ مجموعة من التدابير للحرص على التوافق بين الخطاب الديني واختيارات المغرب الأساسية، وهي عناصر تكشف عن أن المراجعة المتخذة في السياسة الدينية للدولة ذات طبيعة شمولية تنطلق من الجوانب الهيكلية والتنظيمية وتطال مختلف مجالات تدخل الوزارة الوصية، وهو ما يمثل مقدمات مراجعة نوعية وهادئة تتواصل مع مجموع الخطوات التي سبق الإعلان عنها من طرف وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية طيلة السنة الجارية، وخصوصا بعد الاعتداءات التي تعرضت لها مدينة الدارالبيضاء في 16ماي الماضي، كما تمثل أيضا جزءا من مسار تم تدشين التفكير فيه مع مجيء الملك محمد السادس وهدف إلى تفعيل هذا الحقل وتجديده وتطويره بشكل كلي. محطات في المراجعة مباشرة بعد اعتلاء الملك محمد السادس للعرش وقضية إعادة النظر في تدبير الحقل الديني ومراجعة التوجهات والخيارات التي تؤطره مطروحة بإلحاح، ويمكن التأريخ لهذا المسار بعدد من المحطات، أولاها الانفتاح على الحركة الإسلامية وإدراج الرئيس السابق لحركة التوحيد والإصلاح ضمن المشاركين في سلسلة الدروس الحسنية في رمضان 1420 الموافق لدجنبر 1999 ، ثم تلى ذلك قرار رفع الإقامة الجبرية على مرشد جماعة العدل والإحسان في ماي 2000 ، ليعقب ذلك صدور المذكرات الأربع الشهيرة المؤرخة في 5يونيو,2000 والموقعة من طرف وزير الأوقاف السابق والتي استهدفت أربع مجالات ذات أهمية وازنة في عمل الوزارة وشركائها في تأطير الحقل الديني وعلى رأسها المجالس العلمية، حملت المذكرات الأربع أرقام 16 و17 و18 و,19 وقد همت الأولى موضوع فتح المساجد وتنظيم دروس محو الأمية بها، والثانية بناء المساجد، والثالثة الوعظ النسوي، والرابعة مهام المجالس العلمية، هذه الأخيرة التي تضمنت توسيعا دالا في وظيفة ودور المجالس العلمية، حتى أن البعض اعتبر الوزارة قد فوتت ملف الشؤون الإسلامية إلى المجالس العلمية، وقد أثار صدور هذه القرارات ردود فعل متعددة أجمع جلها على الطبيعة الثورية للقرارات المتخذة لا سيما ما تعلق فيها بالتراجع عن التدابير التي سبق أن سنها الظهير المنظم للمساجد في فبراير ,1984 والتي أعطت لوزارة الداخلية صلاحيات واسعة لوزارة الداخلية في مجال مراقبة المساجد، ليفاجأ المتتبعون بصدور مذكرة خامسة تحمل رقم 20 يوم 9يونيو تجمد العمل بالمذكرات السابقة، وتعلن أن صدورها يندرج ضمن برنامج شامل يتطلب تنفيذه استعدادا ماديا وبشريا كما يتطلب وقتا كافيا لتطبيقه على الوجه الأكمل، رغم ذلك جاء خطاب العرش لتلك السنة مؤكدا على تلك التوجهات وخصوصا المتعلقة منها بإعادة هيكلة المجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية الجهوية وإعادة الاعتبار لمكانة المسجد، وكانت محطة الإعلان عن رؤساء المجالس العلمية في 15دجنبر 2000 مناسبة تجدد فيها النقاش بحدة، لكن دون صدور ما يفيد العودة الرسمية لتلك القرارات، وفي صيف 2002 سيحتدم النقاش بحدة حول دور وزارة الأوقاف مبعد انتشار الحديث الإعلامي حول ما يسمى بالسلفية الجهادية، واعتبر ذلك مقدمة تؤذن برحيل وزير الأوقاف السابق عبد الكبير العلوي المدغري الذي تحمل مسؤولية الوزارة منذ فبراير.1984 وهو ما تأكد مع تكوين الحكومة الجديدة في نونبر 2002 والتي حملت ضمن مستجداتها تغيير وزير الأوقاق وتنصيب أحمد التوفيق خلفا له. عند مناقشات القانون المالي 2003 في دجنبر 2002 لم يشأ الوزير الجديد أن يعلن عن برنامجه مكتفيا باعتبار نفسه في مرحلة استكشاف للقطاع وتعرف عليه، وأنه من السابق لأوانه الحديث عن مشروع جديد، بل حتى في الدرس الافتتاحي لسلسلة الدروس الحسنية في رمضان السنة الماضية لم يفصح عن جديد نوعي سوى التأكيد على الاندراج ضمن التوجهات التي يعلنها الملك بصفته أميرا للمؤمنين، ولم تبرز العناصر الأولى إلا بعد تفجيرات 16ماي. تفجيرات 16ماي والسياسة الجديدة مباشرة بعد التفجيرات طرح النقاش بقوة حول دور وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية واكتسى بعدا سياسيا واستراتيجيا ملحا، وفي الوقت الذي استأسد فيه التيار الاستئصالي واعتبر ما جرى فرصته في ضرب الحركة الإسلامية وتحجيم فاعلية مؤسسات التدين وعلى رأسها المساجد، والإعلان عن نهاية الخصوصية المغربية ووفاة الاستثناء المغربي، مما برزت نتائجه في السياسة الارتجالية التي دفعت بعض رجال السلطة لإغلاق المساجد والقيام بحملات أدت لإغلاق العشرات من المساجد خصوصا بكل من الدارالبيضاء وفاس بدعوى عدم توفرها على الشروط النصوص عليها في ظهير ,1984 في هذا الوقت اتسم سلوك الوزارة بانتهاج خيار مضاد لعب دورا استثنائيا في معادلة غلواء التوجه الاستئصالي، وهو ما برز في محطات متتالية أولها تمثل في كلمته الافتتاحية يوم 23ماي المنصرم( أي أسبوعا بعد التفجيرات) لأشغال الندوة الوطنية الثانية للمجالس العلمية في موضوع العقيدة الأشعرية والفقه المالكي، حيث دعا المؤسسات الدينية والعلماء الى المشاركة في العمل الدؤوب والوجود الكثيف بغية كسر الجهالة والغلو، وذلك عن طريق القدوة الملائمة التي تفهم لغة العصر عند الأجيال ومختلف الطبقات وتحقق المناعة الذاتية التي تضمن نجاح مجهود البناء الذي تخوضه البلاد، ومعلنا في نفس الكلمة أنهوأعلن وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربي أنه تقرر منذ شهور تنظيم ندوات ولقاءات تكون نتائج النقاش فيها في متناول المواطنين بواسطة برامج تلفزيونية وإذاعية ومنشورات بلغة ميسرة بهدف تبصيرهم بقضايا العقيدة والفقه وروح الدين بما يتوافق مع ما نشأ عليه المغاربة من الانسجام الفكري والطمأنينة الإيمانية حتى يتحصنوا ضد الفتنة في الدين، ثم أكد نفس التوجه وعمقه في النقاش الذي عرفه مجلس النواب يوم 4يونيو 2003 حيث أكد أن المساجد في المغرب كانت دائما حامية للمقومات الضامنة لأمن واستقرار البلاد، وأن أي تفريط في رسالتها يؤدي إلى الخلل، مع نفيه لأن تكون المساجد خارج الرقابة القانونية للوزارة، مؤكدا أن الظهير المنظم لهذه الرقابة يشمل كافة أماكن العبادة، ومنصفا القائمين على التأطير الديني في المساجد معتبرا أن هناك حالات قليلة من أئمة وخطباء المساجد الذين يحيدون عن الجادة ليؤكد في كلمته على أن الظروف المستجدة تحتم على الوزارة تعبئة كل آلياتها من ضمنها العلماء والمجالس العلمية قصد تحصين البلاد بالمناعة الضرورية ضد النزاعات الغريبة عن التقاليد العريقة في الممارسة الدينية بالمغرب. أما المحطة التي برز فيها الوزير فكانت استضافته في برنامج في الواجهة في الأسبوع الثاني من شهر يونيو المنصرم والتي أعلن فيها عن المقاربة الشمولية لتدبير الشأن الديني مستعملا في ذلك مصطلح الابتكار المغربي، واعتبر هذا الموقف مؤشرا عن الانفراج الذي بدأ يسم سلوك الدولة تجاه الحركة الإسلامية بما يحد من مخاطر الانزلاق نحو دعاوى الاستئصال والاستجابة لأطروحات الإقصاء، لتعبر بذلك عن استثناء مغربي وخصوصية وطنية تعتبر سياسة الانفتاح على الحركة الإسلامية مكسبا وعنصر قوة في التطور الديموقراطي للبلاد، وتركيزه في البرنامج على أن تطوير التدبير الديني ينبغي أن يقوم على مقومات من بينها الفهم العميق لديننا استلهاما من تاريخنا نساهم فيه جميعا ونهديه لأنفسنا وللأجيال اللاحقة والأمة الإسلامية، و كذا على أهمية دور العلماء في مشروع التهيئة الشاملة المقبلة للخريطة الدينية بالمغرب، والطابع الشمولي للمقاربة المطلوبة في مواجهة ما سماه بالنتوءات التي علقت بهذه الخريطة، وإعطاء الموقع الصحيح للخلفيات التي حكمت منفذي تفجيرات 16ماي أو في حدود الاختلاف داخل البلاد حول ثوابت الأمة واختيارتها، أو في التأكيد على أن سياقات المغرب تختلف سياقات بلدان أخرى. ويمكن القول أن التوجهات المعلنة من طرف الوزير تلقت دعما سياسيا قويا في خطاب العرش لهذه السنة، بل إنها أعطت للوزارة أدوارا جديدة تتجاوز أدوارها التقليدية. توجهات مستقبلية تبرز المعطيات الآنفة أن التوجهات المعلنة هي محصلة مسار من المبادرات والخطوات، كما تكشف عن الدور الذي لعبته التفجيرات في توفير الإرادة السياسية المطلوبة لدعم عملية الإصلاح المتعثرة منذ سنوات، والتي لم تبارح حدود الإعلان عن البرامج وإصدار المذكرات، بل إن عددا من الخطوات تعرضت للإضعاف أثناء التنفيذ ( دروس محو الأمية، إعادة الاعتبار لرسالة المسجد،..)، ونعتقد أن الأمر لا ينقصه توضيح التوجهات والبرامج، بل اعتماد سياسة تشاركية تنطلق من الحوار مع كافة الفاعلين في الحقل الديني والدعوي والقيام بانتفاضة شاملة تمكن من توفير الاشروط المادية وتأهيل الموارد البشرية اللازمة للإصلاح المطلوب. مصطفى الخلفي