في كل مرة يقع فيها تجديد ثلث مجلس المستشارين يفتح نقاش من جديد حول جدوى هذه المؤسسة، وما هي الإضافات التي جاءت بها إلى الممارسة البرلمانية بالمغرب، لكن يبدو أن هذا النقاش بدأ يخفت مع توالي سنوات العمل بالتجربة الثنائية، وذلك بانضباط الأحزاب السياسية ومثلي الأمة بالعمل على إيقاعات هذه الثنائية. ورغم أن الغرفة الثانية شرعت في الاشتغال منذ سنة 1997 ، إلا أن هناك من لا يزال يطالب بإلغائها وتوحيد مجلسي البرلمان، مجلس النواب ومجلس المستشارين، في مجلس واحد، لأن المغرب في حاجة إلى ممارسة تشريعية سريعة تستجيب لحاجات التنمية الملحة، وذلك بناء على عدة اعتبارات، منها الحصيلة الضعيفة للغرفة الثانية واعتبارها نسخة مكررة لمجلس النواب. وفي مقابل ذلك هناك من يقول إن النقاش الحقيقي ينبغي أن ينصب على تطوير هذه المؤسسة وتحديد اختصاصاتها من أجل تمييزها عن مجلس النواب، وجعلها تسهم في زرع ديناميكية جديدة في الحياة البرلمانية. 1 هل يمكن أن تلعب الغرفة الثانية دورا سياسيا في المستقبل؟ إن إحداث غرفة ثانية بالبرلمان المغربي في التعديل الذي عرفه الدستور سنة ,1996 خلق جدلا سياسيا واسعا آنذاك، كما أن فقهاء القانون الدستوري تصدوا لهذا التعديل بالتحليل والمناقشة والتمحيص، وكان السؤال المطروح دائما في كل نقاش: ما الفائدة من إضافة غرفة ثانية وما الدافع وراء ذلك؟ لقد كان جواب المتحمسين للفكرة أن الهدف من التعديل الدستوري هو "تحقيق تمثيلية أوسع لمختلف الجهات والقطاعات بالبلاد وإرساء الجهوية والرفع من الأداء الوظيفي للمؤسسة التشريعية" (لصحيفة عدد 91 ص 11). لكن أغلب المحللين ذهبوا إلى أن إحداث غرفة ثانية ارتبط بشكل كبير بالمناخ السياسي السائد منذ بداية عقد التسعينات، وهو تهييء النظام المغربي نفسه للدخول في تجربة التناوب السياسي، وإيجاد آليات دستورية لمعالجة أي انزلاق يمكن أن تعرفه تلك التجربة، خاصة وأن المقصود بهذا التناوب كان هو إشراك أحزاب المعارضة في الحكم، وهي أحزاب تمرست مدة عقود على معاداة النظام السياسي المغربي. يقول الأستاذ عبد الرحيم المنار السليمي، باحث في العلوم السياسية بكلية الحقوق بالرباط، >إنه لفهم أسباب نزول وجود غرفة ثانية بالمغرب، يجب ربطها بالمناخ السياسي السائد في أواسط التسعينات، وهي المرحلة التي كان يتهيأ فيها المغرب لدخول تجربة التناوب، وإعطاء هذه الغرفة حق إسقاط الحكومة، يبين أن القراءة السياسية لتعديل سنة 1996 تبين أن واضعي الدستور فكروا في خلق هذه المؤسسة لحفظ التوازن، وكاحتياط لمنع أي انزلاق في العمل السياسي<. وينتهي الباحث المذكور إلى استحسان إلغاء الغرفة الثانية بانتفاء الدواعي السياسية لإحداثها. وهناك من يرى أن هذه الدوافع مازالت حاضرة، خوفا من ظهور قوة سياسية جديدة غير مرغوب فيها، والإبقاء على مجلس المستشارين وسلطته في تقديم ملتمس الرقابة، هي بمثابة كوابح السلامة للعمل البرلماني والسياسي بالمغرب. 2 الاستنساخ الوظيفي للعمل البرلماني لم يعد الطرح السياسي إذن حاضرا بقوة في التعامل مع الغرفة الثانية، وإنما المعضلة الكبرى التي يثيرها، سواء رجال القانون أو الساسة، هي المعضلة الدستورية، حيث تعتبر الغرفة الثانية نسخة مكررة لمجلس النواب في الجانب المختص بالتشريع. ويكاد يجمع كل المهتمين بهذا المجال أن تشابه الاختصاصات وتداخلها يؤدي في النهاية إلى بطء الوظيفة التشريعية للبرلمان وتعقيدها، وخلق نوع من الرتابة والملل لدى المتتبع بمناقشة عمل تشريعي يعرض على مؤسستين معا. ويعكس الفصل 58 من الدستور هذا التعقيد بإمكانية مناقشة مقترح أو مشروع قانون مرتين في كل من المجلسين، وفي حالة الاختلاف تصبح المسطرة أكثر تعقيدا. وتعليقا على هذه المعضلة الدستورية، يقول الأستاذ عبد العالي حامي الدين، أستاذ القانون الدستوري بكلية طنجة، >إنه نظرا للاختصاصات المستنسخة للمجلسين، والإرهاق المالي الذي يكلفه ذلك لخزينة الدولة، فإن مطلب إلغاء الغرفة الثانية يعتبر مطلبا مشروعا<. والخلاصة نفسها ينتهي إليها الباحث عبد الرحيم المنار السليمي، باعتبار أن مجلس المستشارين لم يضف شيئا إلى العمل التشريعي المغربي، حيث يقول "إن الاستمرار في العمل بالثنائية رهين بتقييم عمل الغرفة الثانية خلال السنوات الماضية، ومع ذلك فإن العمل بالطريقة القديمة هي في نظره طريقة ناجعة". ويضيف الأستاذ حامي الدين أنه في حالة الإبقاء على مجلس المستشارين، فإنه لا بد من مراجعة اختصاصاته وتشكيلته، ويعطي مثالا لذلك بالنظام البرلماني البريطاني، إذ أنه يعمل بالثنائية على اعتبار أن الغرفة الأولى، وهي مجلس العموم ينتخب أعضاؤه بواسطة الاقتراع العام المباشر، وهو صاحب الصلاحيات المهمة، أما الغرفة الثانية وهي مجلس اللوردات، فهي تمثل فئات معينة في المجتمع كبعض العناصر الأرستقراطية والقضاة وممثلي الكنيسة... وبالنسبة لاختصاصاته فهي جد ضعيفة، ويكمن دوره في إبداء الآراء التقنية، نظرا لكفاءة وخبرة أعضائه. ويقترح الأستاذ المذكور أنه من الضروري إضافة بعض الهيئات الأخرى إلى مجلس المستشارين كالمحامين والعلماء وغيرهم، مع انتقاده للطريقة التي تتم بها انتخابات هذا المجلس، حيث إن الراسبين في انتخابات مجلس النواب يعاودون الكرة في انتخابات الغرفة الثانية، وغالبا ما ينجحون في ذلك، وكأن نظام الغرفتين طريقة لإدماج النخبة، أكثر من كونه إدماجا لبعض الجهات أو الأقاليم أو فعاليات معينة. وحتى الفكرة القائلة بجعل الغرفة الثانية مجالا للتأمل والتفكر في قضايا الأمة، ونزع اختصاص التشريع عنها لا تلقى استحسانا عند البعض، كما هو الشأن بالنسبة للباحث المنار السليمي الذي تساءل: ففي ماذا ستفكر الغرفة الثانية؟ مؤكدا أن هناك العديد من اللجان خارج البرلمان تفكر، والحكومة بدورها موجودة وهي تفكر وتنفذ أيضا. وليس هذا حال الفقهاء الدستوريين فقط، بل إن بعض الساسة أيضا تزعجهم الغرفة الثانية، ففي تصريح سابق، اعتبر محمد بنسعيد، الأمين العام لمنظمة العمل الديمقراطي الشعبي، أن مجلس المستشارين غرفة زائدة ، بل ليست ذات موضوع من منظور الإصلاحات الدستورية والسياسية التي طالبت بها الكتلة الديمقراطية... ويؤكد أن منظمته تطالب منذ البداية بإلغاء مجلس المستشارين والاكتفاء بنظام برلماني من غرفة واحدة منتخبة بالاقتراع العام المباشر. (الصحيفة عدد 91 ص: 9). ويلاحظ أن الإصلاحات الدستورية غير مدرجة في أجندة الأحزاب السياسية في الوقت الراهن، أو أنها على الأقل ليست ضمن أولياتها. ويقول جامع المعتصم، مستشار بالغرفة الثانية، إن هناك حديثا أو شعارات فقط حول الإصلاح الدستوري، لكن إلى حد الساعة لا يوجد تصور ولا مقترحات واضحة ولا برنامج مفصل حول هذه المسألة لدى الأحزاب السياسية المغربية. لكن مع ذلك نجد بعض هذه الأحزاب تنص في برامجها الانتخابية على المطالبة بالإصلاح الدستوري، كما هو الشأن بالنسبة لحزب العدالة والتنمية، حيث نلمس في برنامجه الانتخابي لسنة 2002 مطالبته بمراجعة نظام الغرفتين في اتجاه الاكتفاء بغرفة واحدة أو على الأقل مراجعة اختصاصاتهما بما يكفل التكامل بينهما بدل التنافس والتكرار. (التجديد عدد 463). 3 لا بد من تحديد اختصاصات مجلس المستشارين وعلى عكس الرأي القائل بضرورة إلغاء الغرفة الثانية، هناك من لا يمانع في وجودها، لكن مع تحديد اختصاصاتها وتفادي التجربة الحالية التي تعمل بنسختين متشابهتين. فبالنسبة لجامع المعتصم، يرى أن النقاش الحالي ينبغي أن ينصب في اتجاه تمايز الاختصاصات بين المجلسين وتكاملهما، على اعتبار أن الإشكال الحقيقي مرتبط بمسألة الاختصاصات لا بمسألة الإلغاء، فالتجربة الحالية حسب رأيه أثبتت فعلا أن المجلسين يقومان معا بالأدوار نفسها، إلا أنه يشير إلى أن هناك اختلافا بينهما على مستوى التمثيلية، وهو ما يمكن اعتباره مبررا لوجود المؤسستين معا. ويضيف المعتصم أن مجلس المستشارين يضم ممثلين عن الجماعات المحلية والغرف المهنية وفئة المأجورين، وهو أمر غير متوفر بشكل واضح في مجلس النواب. وفي السياق ذاته، يرى خالد السموني، أستاذ القانون الدستوري بالرباط، أنه رغم أن الممارسة التشريعية للسنوات السبع الماضية بينت بطء وتعقيد مسطرة التشريع وضعف المردودية للغرفة الثانية، فمن المهم أن تبقى الثنائية بالمغرب، فكثير من الدول تأخذ بنظام الازدواجية، لكن بطبيعة الحال مع تحديد اختصاصات مجلس المستشارين والتركيز على المسألة المتعلقة بمراقبة الحكومة. وحسب السموني، فليس الإشكال في الجانب القانوني، بل في الأشخاص الذين يمثلون مجلس المستشارين، فبقدر ما توجد كفاءات وخبرات به، بقدر ما تكون الفعالية أكثر، ويمكن الرفع من مستواه. ويرجع الأستاذ المذكور اللوم أيضا إلى الأحزاب السياسية التي تقترح على هذا المجلس أشخاصا ليسوا في المستوى المطلوب، بالإضافة إلى استعمال المال الحرام وتزوير إرادة الناخبين، مما يفرغ العملية الانتخابية من محتواها. ويضيف الأستاذ أنه باطلاعه على تقارير لجان مجلس المستشارين يتبين أن مساهمته التشريعية كانت محدودة وغير مقنعة، ومن أسباب ذلك انعدام المؤهلات والكفاءات بالمجلس. ومن جهته يؤكد جامع المعتصم أن جدوى الغرفة الثانية مرتبطة بمدى فعالية أعضاء وهياكل المؤسسة، حيث لم تستطع لحد الساعة أن تبدع وتجدد في مجالي التشريع والرقابة، ولم يتم تلقيح وتطوير المشاريع المحالة على الغرفة الثانية، والسبب، حسب المستشار المذكور يرجع إلى أن الأجهزة المكلفة بالتدبير والتسيير ليست لها القدرة على الإبداع والتجديد. وبالإضافة إلى الاستنساخ في عمل الغرفتين وتكرار الجهود والبطء في الإنجاز، كشفت الممارسة خلال السنة التشريعية الماضية أن الأغلبية الحكومية قد تستغل هذا الوضع لإفراغ العملية التشريعية من مضمونها وثرائها السياسي، وذلك من خلال قطع الطريق على القوة الاقتراحية للمعارضة بإحدى الغرفتين، وهي في هذه الحالة المعارضة التي يقودها حزب العدالة والتنمية في مجلس النواب. فقد كشفت السنة التشريعية الماضية أن الحكومة في كثير من الأحيان قد حولت مجلس النواب (الغرفة الأولى) إلى مجرد غرفة تسجيل، وذلك في الحالات التي تتم إحالة بعض القوانين بداية على الغرفة الثانية، حيث تمررها اعتمادا على أغلبيتها الحكومية هناك، ثم تجعل دور الغرفة الأولى في المصادقة على القانون هامشيا، بدعوى أنه خضع بما يكفي للمناقشة والتعديل في مجلس المستشارين، وبدعوى الاستعجال وتجنب التعقيدات المرتبطة بإعادة إحالة المشاريع عليه. وهذا ما حدث في عدة مشاريع مهمة، منها على سبيل المثال مدونة الشغل التي كشفت مناقشة فريق العدالة والتنمية له، سواء في اللجنة المختصة أو في الجلسة العامة، عن عدة ثغرات اعترفت بها الحكومة نفسها وأغلبيتها. 4 عيوب كبيرة في تدبير المؤسسة وطريقة بناء هياكلها بالإضافة إلى الغموض الذي صاحب إحداث الغرفة الثانية وتكرار عملها الوظيفي، فإنها من ناحية أخرى تكلف ميزانية الدولة كثيرا من الأموال هي في حاجة إليها، على عكس الدول المتقدمة التي تتحمل أعباء الازدواجية البرلمانية، في حين أن الدول النامية تحتاج إلى مؤسسة تشريعية ديناميكية وسريعة تساعد وتشجع على التنمية الشاملة والسريعة. وتجربة مجلس المستشارين لم تستطع أن تنهج نهجا متميزا عن مجلس النواب، بل كرست هذه الممارسة عدة سلبيات، وأنتجت عيوبا على مستوى هياكل المجلس. وحسب أحد المستشارين فإن هناك عيب كبير على مستوى تدبير المؤسسة وطريقة بناء هياكلها، حيث بقيت جامدة، واشتغلت في الأمور الروتينية العادية جدا، التي تستهلك إمكانات المؤسسة. ويعطي المستشار المذكور مثالا على ذلك بانشغال المكتب وأعضائه بالسفريات دون أية استرتيجية أو تصور واضح لها، فيتم استهلاك موارد المجلس في مجالات غير منتجة. وحسب بعض الكتابات الأخرى، فإن إدارة المجلس لا تخلو من بعض الأمراض كالجري وراء الامتيازات والزيادة في أيام السفريات والنفخ في التعويضات والاستفادة من إمكانيات ووسائل المجلس (الأيام عدد 101 ص:9). خلاصة سيتم تجديد ثلث مجلس المستشاين يومه الإثنين 6 أكتوبر 2003 ، وربما قد تتغير جزئيا الخريطة السياسية للمجلس، لكن السؤال الذي سيبقى مطروحا دائما هو: ما جدوى هذا المجلس وما هي الإضافة التي أتى بها إلى الممارسة التشريعية بالمغرب؟ ورغم خفوت الجدل السياسي حوله، إلا أن رجال القانون لايزالون يناقشون مستقبل العمل البرلماني بالمغرب، وهو الأمر الذي ربما سيدفع بالأحزاب السياسية إلى وضع مسألة الإصلاح السياسي ضمن أولوياتها في المرحلو المقبلة، لتفادي العيوب التي تعرقل عجلة العمل التشريعي بالمغرب. عمر العمري