منذ اندلاع أزمة إقليم دارفور غرب السودان وصف العديد من المنظمات ومن الدبلوماسيين وعلى رأسهم وزير الخارجية الأمريكي كولن باول أمام مجلس الشيوخ الأمريكي، الفظائع التي ترتكب في دارفور غرب السودان على أنها عمليات إبادة جماعية في أعمال يمكن أن تؤدي إلى فرض عقوبات دولية على السودان، محملا المسؤولية في ذلك إلى الحكومة السودانية، وقد أثار مفهوم الإبادة الجماعية المشحون بالدلالات جدلا دبلوماسيا وثقافيا داخل الجمعية العامة للامم المتحدة ومجلس الأمن تمخض عنه القرار رقم 1564 من مجلس الأمن يحذر فيه السودان من عقوبات نفطية في حالة عدم الامتثال لحل أزمة دارفور الانسانية في مهلة زمنية أخرى لا تزيد عن 30 يوما لتنفيذ الاحكام الواردة في القرار السابق الذكر. وتتمثل خطورة هذا القرار في كونه لا يمنح الأممالمتحدة الحق في فرض عقوبات على السودان من دون الرجوع إلى مجلس الأمن واعتماد قرار جديد، ويطلب في نفس الوقت من كوفي عنان الأمين العام تقديم تقارير دورية مرة كل شهر عن مدى وفاء الخرطوم بتنفيذ بنود هذا القرار، وبنود القرار السابق رقم .1556 ومن جهتها قبلت الحكومة السودانية قرار مجلس الأمن بالرغم من وصفها لهذا القرار بأنه ظالم وغير عادل. وفي خضم تعدد أوصاف ما يجري بدارفور بين كونه حرب ابادة جماعية وتطهيرا عرقيا وحربا عنصرية واختراقا لحقوق الانسان، صدح صوت غربي فرنسي وكان بذلك أول رد فعل عن قرار مجلس الأمن مؤكدا بأن ما يجري بإقليم دارفور ليس حرب إبادة ولا تطهيرا عرقيا بل إنه صراع قبائلي وصراع هيكلي ناتج عن تهميش هذا الإقليم منذ سنوات عديدة من الاستفادة من تنمية حكومية شاملة. معتبرا بأن كل ما يقال ويردده الغرب حول إقليم دارفور ليس بحقائق بل إنه أسطورة فبركها الاعلام الغربي والإدارة الأمريكية لأسباب جيو استراتيجية بدأت ملامحها تتجسد. وصاحب هذه الفكرة ليس أي باحث بل إنه الباحث الفرنسي مارك لافيرني المنتمي للمركز الوطني للأبحاث العلمية بباريس CNRS المختص في شؤون السودان، وقد عمل مديرا للأبحاث والدراسات التوثيقية الجامعية العلمية والتقنية). بجامعة الخرطوم من (سنة 1982 إلى 1988)، وقد مكنه قضاؤه عدة سنوات بالسودان من معرفة طبيعة الشعب السوداني المسلم والتلقائي والمسالم من جهة، ومن جهة أخرى كيفية اشتغال النظام السوداني السياسي وطبيعة السودان البدوية وخصائصه الاثنية وخليط سكانه خصوصا باقليم دارفور... وأمام الهجمة الممنهجة من المنابر الإعلامية الغربية ومن بعض الدول الغربية حول اعتبار أزمة دارفور بكونها حرب إبادة جماعية وتطهيرا عرقيا وحربا عنصرية، تجرأ هذا الباحث الفرنسي المختص في الشؤون السودانية للرد عن هذه الاتهامات معتبر أن ما يجري باقليم دارفور هو تطاحن ناتج عن الجفاف والفقر والامية والجهل والنزعة القبلية استغلته بعض القوى الخارجية لتحويله إلى قضية انسانية تتطلب تدخلا دوليا أو حاولت تدويل قضية اقليم دارفور بهدف لتحقيق بعض الاغراض الجيوسياسية بالشرق الأوسط خصوصا إذا عرفنا مؤهلات الاقليم الاقتصادية من جهة، وامكانية استغلالها من طرف بعض المنظمات الارهابية من جهة كما تعتقد الولاياتالمتحدةالأمريكية التي تمر الآن بمرحلة عصيبة بالعراق. ولأهمية مقال مارك لافيرني قمنا بترجمته بتصرف، وهو في الآصل استجواب أجراه مع مجلة (افريقيا) بتاريخ 19 شتنبر 2004 بعنوان صراع دارفور ليس تطهيرا عرقيا. وقد انطلق صاحب المقال بطرح مجموعة من الأسئلة المنهجية تتعلق بعمق قضية دارفور منها: ماذا يجري بدارفور؟ هل هو صراع بين قبائل ذات الأصول العربية وذات الأصول الافريقية؟ هل نحن أمام حرب ابادة جماعية كما ردد ذلك بعض الدبلوماسيين التابعين للجمعية العامة للأمم المتحدة؟ أم أمام تطهير عرقي كما أعلن ذلك الكونغريس الأمريكي؟ من هي مليشيات الجنجويد التي كانت وراء تهجير ونفي الاضطراري لمليون من سكان إقليم دارفور؟ وقد انطلق الباحث مارك لافيرني وهو المختص في الشؤون السودانية من فكرة مهمة مبنية على دراية كبيرة بالشأن السوداني عموما، والشأن الدارفوري خاصة مفادها أن ما حصل باقليم دارفور هو في العمق نتيجة التدبير السلبي السياسي للحكومات السودانية المتلاحقة منذ الاستقلال، التي أهملت كل الأقاليم المحاذية للعاصمة الخرطوم ومنها اقليم دارفور، الذي تريد بعض القوى توظيف أزمته لتحقيق بعض الاغراض السياسية. وعن الصراع الدائر اليوم بإقليم دارفور بين العرب والأفارقة كما تردده بعض المنابر الاعلامية الغربية، وبعض السياسيين الغربيين، انطلق صاحب المقال من نقطة ثقافية مفادها أن صيغة العرب لها حمولة ثقافية وليس حمولة عنصرية أو تطهيرية، فالمليشيات الموصفة بالعربية هي مليشيات عربت وقد حدث ذلك منذ سنوات عديدة مثل قبائل (مساليت)، (ارواس)... والتي يمكن أن نقول عنها إنها إفريقية، وقد كانت هذه القبائل في الأصل كذلك، وحتى ولو بقيت تتواصل باللهجات الإفريقية، فإن هذه القبائل تستعمل كلها العربية. أما في ما يتعلق بالدين، فكل هذه القبائل تعتنق الإسلام. فالمشكل الحقيقي باقليم دارفور يتعلق بنمط الحياة مع سكان رحل يعيشون على الرعي وسكان آخرون فلاحون. إن هذا التمييز واقعي، ولكنه ليس مطلقا، فيمكن أن نفترض أو نتصور بأن حتى سكان دارفور الفلاحين كانوا يوما ما رحلا ورعاة. فالقبائل التي تعيش على الرعي اليوم يمكن أن تكون قد كانت تعيش حياة الاستقرار يوما ما، وحتى القبائل التي تعيش اليوم على نمط الاستقرار يمكن أن تكون أنها عرفت الترحال يوما ما. وعليه فالقبائل المهيمنة على التمرد أي ارواس والمساليت.. هي ذات أصول وقبائل رحل. ولكنها نجدها اليوم مندمجة في المجال التجاري بالسودان. أما في ما يتعلق بميلشيات الجنجويد التي تتوجه إليها اليوم كل الاتهامات، فهي تعني من الناحية الدلالية فرسان الشيطان المسلحة بالكلاشنيكوف. أما في ما يتعلق عن علاقات ميلشيات الجنجويد بالصراع باقليم دارفور فإنها جد معقدة، لكن أؤكد أنه لا مكان للعنصرية أو التطهير العرقي في ما يجري بإقليم دارفور. فبعض ميلشيات الجنجويد هم مرتزقة لا علاقة لهم بالعروبة، فهم ليسوا المشكلة وحتى لا نبالغ، يمكن القول بأن ما يجري هناك هو اقتتال بين مجموعات ضعفاء وفقراء من أجل البقاء على قيد الحياة. وقد تشكلت ميلشيات الجنجويد منذ 15 سنة ولكنها لم تكن تثير انتباه المجموعة الدولية رغم وقوع بعض المجازر بين قبائل دارفور، ولم يكن هؤلاء الفقراء يمتلكون إلا ذرف الدموع، لكون أغلبية مكونات هذه القبائل الفقيرة لم تكن تتمرد وتثور ضد أوضاعها المزرية. لقد زرت دارفور أثناء مجاعة سنة ,1985 وما رأيته كان يفوق كل التصورات، أنه لشيء جد مخيف، والغريب في الأمر هو أنه كان على الأممالمتحدة والمجموعة الدولية انتظار أن تتشكل هذه القبائل اليائسة إلى حركات تمرد وعصيان مدني لكي تفتح عيونها على ما يجري بين هذه الحركات المتمردة بدارفور. وأشير أن القبائل المشكلة لإقليم دارفور كانت تعيش في كنف التعايش وكان هذا هو أساس نمط عيشهم. وكانت هذه القبائل تتكامل في ما بينها وكانت كل قبيلة في حاجة للقبيلة الأخرى، وأثناء هجوم القوات الحكومية على قبيلة النوباس، التجأت الحكومة السودانية لمنع الرحل من تقديم المساعدات الأولية من ملح وصابون إلى هذه القبائل وقد غامر هؤلاء الرحل بحياتهم من أجل تقديم بعض المأكولات لقبائل دارفور التي كانت في صراع مع القوات الحكومية. وإن ما يقع اليوم بإقليم دارفور وتحويل القبائل إلى مليشيات يرجع في العمق إلى كون عدد من سكان قبائل هذا الإقليم الشاسع وجدوا أنفسهم بدون عمل وأمام وضع اجتماعي مترد، الأمر الذي دفع الحكومة تسليحهم، وهو ما حولهم إلى قطاع طرق ولصوص، مما جعل من أغلبية سكان قبائل إقليم دارفور غير خاضعين حتى لنظام القبيلة، فالسكان الرحل وسكان المناطق التي يوجد بها الماء والكلأ كانوا دائما يتقاتلون خصوصا في السنوات العجاف. ولكن سرعان ما تضع هذه القبائل حدا للاقتتال لتبادل المشورة أو اقامة حفلات الزواج لقريب المسافات بين سكان القبائل والاتفاق حول هدنة سلام قد تمتد عشرات السنين. واليوم نشاهد كيف أن هذا النمط من التعايش بين القبائل قد انقرض، وهذه خاصية لا تهم قبائل اقليم دارفور بل إنها انقرضت أيضا بجل الدول الافريقية، فالاجيال الجديدة أصبحت تمتلك الاسلحة الأوتيماتيكية ولم تعد تريد الخضوع لأي رقابة أو تقديم محاسبة لأي كان. فحكومة الخرطوم هي التي اختارت منذ سنة 1995 تسليح هؤلاء الرحل للدفاع عن النفس واستغلالهم كقوات مؤيدة لها لخلق نوع من التوازن داخل اقليم دارفور الذي كان منذ سنوات غير خاضع بكيفية ما لسلطة الدولة السوادنية. فثمن التسلح جد باهض، وأن تكون عسكريا هو مهنة ولا تعني قتل الكل... ومن المغامرة تسليح قبائل. فمنذ سنوات عديدة ومع كل جفاف كانت العلاقات بين الرحل وسكان المناطق المتوفرة على الماء والكلأ تتوتر وفي كل مرة كانت الحكومة تقف إلى جانب الرحل. اضافة إلى تشجيع الهجرة نحو شمال دارفور وهو ما كان يدفع بالرحل البحث عن الأراضي في الجنوب. وأثناء الاقتتال بين هذه القبائل كانت القرى هي التي تهاجم، وبصفة عامة كانت الميلشيات تهاجم ليلا وهذا ما مكان يسبب في حالات كارثية حيث يتعرض ساكنة هذه القرى للسرقة وللتعذيب وللاغتصاب. وما يقلقني في هذا الصراع هو أن الهجومات لم تعد لها أي علاقة مع هجومات الأمس، لأن الجنجويد يحرقون الحقول والمراعي ويقتلون المواشي ويدمرون كل ما يرتبط بها، وهذا يبرهن أن أعضاء هذه المليشيات يهاجمون هذه المناطق ليس للبقاء أو العيش فيها للأبد. وحسب اعتقادي فالحرب الدائرة الآن بالسودان عموما وباقليم دارفور خصوصا تتحكم فيها أهداف اقتصادية. فالجنوب السوداني غني بالنفط وبثرواته الفلاحية، ومنذ زمن والسودان يعد مصدر البواذر بالنسبة للعالم العربي. فالشركات الكبرى السعودية والإماراتية مهتمة للاستثمار في القطاع الفلاحي الصناعي في هذه الأراضي الشاسعة التي توجد أغلبيتها باقليم دارفور. ونشير أن القطاع الفلاحي بالسودان قد تطور منذ سنوات 1940 1950 على النمط الرأسمالي. فالعديد من الأراضي يمتلكها ملاك أو عائلة واحدة مالكة، بالاضافة إلى ذلك فقد تميز عهد الجنيرال جعفر النوميري خلال سنوات 80 بمنح أهم أراضي الاقليم لشركات خليجية. وعليه فالبعد الاقتصادي له أهميته القصوى في الصراع الدائر اليوم في دارفور خصوصا وفي السودان عموما. ونشير أن الصراع الدائر الآن بين الحركة من أجل العدالة والمساواة، وحركة تحرير السودان وبين الحكومة حول دارفور ليس وليد اليوم كما يظن البعض أنه نتيجة تراكمات التدبير الحكومي لشؤون هذه المنطقة منذ تعاقب الحكومات السودانية، حيث إنها لم تضع في أولياتها برامج لتطوير البنيات التحتية لاقليم دارفور الذي عانى الكثير في ظل الحكومات السودانية المتعاقبة. ونتيجة تراكمات الاهمال الحكومي وقعت هذه الكوارث التي يعيشها اقليم دارفور اليوم والذي سعت بعض القوى الخارجية تدويل قضيته. وهذا ما تمثل في ردود الفعل الدولية المختلفة حول ما يجري باقليم دارفور. فالجنجويد يهاجمون سكان القرى ويدفعونهم لمغادرة أراضيهم لتستغل من بعض الرحل والتابعين للنظام السوداني. فإذا أردنا أن نقول الارقام فيمكن أن نقول إنها كارثة إنسانية، ذلك أن أكثر من 30 .000 فرد توفي إلى حد اليوم. إضافة إلى أن الالاف من السكان يوجدون دون مأوى والذين تزداد أوضاعهم تدهوار خصوصا في فصل الشتاء حيث يصبح ايصال المعونات لهؤلاء المنكوبين يواجه عدة صعوبات نتيجة غياب البنيات التحتية باقليم دارفور. أما أن نصف ما يقع بهذا الإقليم بأنه تطهيرا عرقيا أو حرب إبادة جماعية أو الرغبة في تصفية شعب، فلا أعتقد بأن الجنجويد يريدون تصفية قبائل تربطهم بها علاقات عائلية وجوار ومصاهرة، وحسب اعتقادي فالطريقة التي تعالج بها المجموعة الدولية قضية دارفور غير كافية وغير فعالة خصوصا من طرف فرنسا التي عودتنا دائما دعم حكومات الخرطوم بالرغم من انتقادها للخرطوم وطريقة تدبيرها الشأن السوداني لاقتناع الحكومة الفرنسية بأن السودان هي دولة توازن اقليمي في منطقة حساسة. وهذا ما جعل السفير الفرنسي يصرح مؤخرا بأن الحكومة السودانية غير متورطة في أزمة دارفور. وأني لأمتعض من الزيارات الدبلوماسية المتتابعة والمكثفة للخرطوم والتي تطلب من الرئيس السوداني التدخل لمساعدة هؤلاء النازحين والفارين من الجوع والحرب بدارفور. ومحاولة الضغط عليه للالتزام بالقرارات الدولية دون الضغط على حركات التمرد ومحاولة ايجاد حل شامل لكل بؤر التوتر بالسودان وبالدول المجاورة لها خصوصا تشاد واريتيريا التي على المجموعة الدولية أن تقتنع بأن استقرارها هو من استقرار السودان، واستقرار السودان هو من استقرار المنطقة بأكملها. الباحث الفرنسي مارك لافييرني المختص في شؤون السودان