ينبغي ألا نتردد في وصف بعض التعبيرات السلفية في تونس بكونها مقلقة وتشوش على تجربة الانتقال الديمقراطي في بلد ثورة الياسمين، فالدعوة إلى الجهاد أو الخلافة الإسلامية أو إنزال العلم التونسي واستبداله بما يسمى بعلم الخلافة وغيرها من التعبيرات التي تتناقض مع ثقافة وقيم المجتمع التونسي، تتطلب من الجميع أن يتحمل مسؤوليته في استنكار هذه الظواهر، والقيام بدوره في ترشيد التدين والتفكير في صيغ التعاطي مع هذه التعبيرات. صحيح أن هذه التعبيرات هي حصيلة تاريخ من القمع والإرهاب الذي مارسه نظام بن علي على التيارات الإسلامية بجميع تشكيلاتها بتواطؤ كثير من القوى العلمانية المحسوبة على الحداثة، لكن ذلك لا يبرر بحال من الأحوال استقالة المجتمع وقواه الحية في استيعاب هذه التعبيرات وتحصين التجربة الديمقراطية وقواعد الاجتماع السياسي. هناك أربع مرتكزات نحتاج في عملية التعاطي مع هذه التعبيرات أن نستحضرها حتى نضمن الحصول على أحسن النتائج: -الأول: وهو الإقرار بكون التيار السلفي يمثل إحدى الحقائق السوسيولوجية على الأرض، والتي لا تنفع معها جميع أشكال الإقصاء ولا المقاربة الأمنية، لأن ذلك لا يزيد الظاهرة إلا غلوا واستفحالا. فالمدخل الصحيح للتعامل مع الظاهرة يبدأ أولا بالاعتراف لهذا المكون بحق الوجود وحق التعبير عن ذاته، فهذا يضمن له الانسياب في النسق السياسي، ويؤهله إلى قبول البيئة السياسية بمعاييرها وقيمها ولو بشكل تدريجي. -الثاني: أن بروز هذه التعبيرات المتطرفة هو نتيجة طبيعية لعاملين اثنين؛ الأول، هو المقاربة الأمنية التي لم تبق أي خيار للحوار والإدماج السياسي للإسلاميين بمختلف تعبيراتهم، والثاني، هو انتهاج النظام التونسي السابق لمقاربة استهداف التدين عبر ما يعرف بتجفيف المنابع، والتي كان من بين نتائجها إفراغ الساحة من العلماء والدعاة والمفكرين المؤطرين بالفكرة الإسلامية الوسطية المعتدلة، فكان حصيلة تفاعل العامل الأول بالثاني، بروز هذه التعبيرات التي لم تجد من يتحمل مسؤولية ترشيدها. ومما زاد في تعقيد الوضع واستفحاله انشغال الحركة الإسلامية التي صعدت إلى السلطة بقضايا الشأن العام، واستنزافه لأطرها وما نتج عنه من إفراغها لمساحات كبيرة داخل المجتمع. -الثالث: أن التعاطي مع هذه التعبيرات لا ينبغي أن يكتفي بالاستنكار والشيطنة ولا مسايرة أطروحة التحريض لاستعمال المقاربة الأمنية وتعقيد الظاهرة ودفعها إلى مزيد من الغلو والتطرف، وإنما ينبغي أن تتحمل جميع مكونات المجتمع المدني مسؤوليتها في ترشيد التدين والتأكيد على أهمية العلماء والدعاة والحركات الإسلامية في استيعاب هذه الظواهر، وأن يتم التمييز في هذه التعبيرات بين ما كان طابعه فكريا يكتفى فيه بالحوار والمقارعة النظرية، وما كان طابعه عنفيا يزعزع السلم المجتمعي يحتاج فيه إلى إعمال سلطة القانون من غير شطط ولا تعسف. -الرابع:أن هناك حاجة إلى أن نتأمل الظاهرة السلفية في تونس في ضوء سياقها التاريخي الذي كان محكوما بواقع الانسداد السياسي فلم يكن بالإمكان إلا أن تنتج فكرا سلفيا منغلقا تماما كانغلاق نظام بن علي، وأيضا في ضوء سياق التحولات التي يعيشها العالم العربي، والتي دفعت الحركات السلفية إلى الانخراط في العملية السياسية التي كانت بالأمس تحرم كل الحيثيات المرتبطة بها بدءا من تأسيس الأحزاب وانتهاء بالمشاركة السياسية، بل دفعها إلى الانخراط في مراجعات لا زالت إلى اليوم تسير في نسق مطرد في مصر وغيرها من الدول العربية. خلاصة الموقف، إن الإقرار لهذه المكونات بحق الوجود، وتشجيعها على الاندماج في العملية السياسية، والانخراط معها في دينامية فكرية وعلمية شرعية وأيضا سياسية، سيكون من نتيجته الطبيعية إحداث تحول في أدبياتها وعناوينها ومنهجها في التعاطي مع الواقع السياسي، وفي المقابل، فإن أي جنوح للمقاربة الأمنية للتعاطي مع غلو الأفكار لا يمكن أن ينتج إلا مزيدا من تعقيد الظاهرة، وتضييع الفرصة التي توفرها التحولات الجارية في المساعدة على القطع التدريجي مع ظاهرة الغلو.