لازالت بعض الفهوم الخاطئة تعشش في ثقافتنا الدينية الشعبية رغم ما بذله العلماء والمفكرون والمصلحون من جهود عبر تاريخ الإسلام لتنقية الثقافة الإسلامية منها. ويعد الفهم الخاطئ للتوكل مثالا حيا في هذا الجانب ، ذلك أن كثيرا من الناس لم يدركوا بعد العلاقة بين القيام بالأسباب وبين التوكل على الله مما جعلهم يتطرفون يمينا أوشمالا . ومن القواعد الذهبية التي جمع فيها أحد التابعين حسن فهم هذا الموضوع قاعدة " ترك الأسباب معصية والاتكال عليها شرك" فهذه القاعدة تلخص حقيقة السلوك الوسطي الذي ينبغي أن يدرج عليه المسلم في حياته في نظرته إلى الأسباب وفي توكله على الله . ولابن القيم رحمه الله كلام ثمين في بيان الفرق بين التوكل والعجز والقيام بالأسباب يزيد هذه القاعدة توضيحا ومثالا قال فيه : الفرق بين التوكل والعجز: أن التوكل عمل القلب وعبوديته، اعتمادا على الله وثقة به والتجاء إليه وتفويضا إليه ورضا بما يقضيه له، لعلمه بكفايته سبحانه وحسن اختياره لعبده، إذا فوض إليه، مع قيامه بالأسباب المأمور بها واجتهاده في تحصيلها. فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم المتوكلين، وكان يلبس لأمته ودرعه ، بل ظاهر يوم أحد بين درعين ، واختفى في الغار ثلاثا ،فكان متوكلا في السبب لا على السبب . وأما العجز فهو تعطيل الأمرين أو أحدهما: فإما أن يعطل السبب عجزا منه ويزعم أن ذلك توكل، ولعمر الله إنه لعجز وتفريط ؛وإما أن يقوم بالسبب ناظرا إليه معتمدا عليه غافلا عن المسبب معرضا عنه، وإن خطر بباله لم يثبت معه ذلك الخاطر، ولم يعلق قلبه به تعلقا تاما بحيث يكون قلبه مع الله وبدنه مع السبب، فهذا توكله عجز وعجزه توكل . وهذا موضع انقسم فيه الناس طرفين ووسطا: فأحد الطرفين عطل الأسباب محافظة على التوكل، والثاني عطل التوكل محافظة على السبب، والوسط علم أن حقيقة التوكل لا يتم إلا بالقيام بالسبب فتوكل على الله في نفس السبب . وأما من عطل السبب وزعم أنه متوكل فهو مغرور مخدوع متمن، كمن عطل النكاح وتوكل في حصول الولد، وعطل الحرث والبذر وتوكل في حصول الزرع، وعطل الأكل والشرب وتوكل في حصول الشبع والري؛ فالتوكل نظير الرجاء والعجز نظير التمني . فحقيقة التوكل أن يتخذ العبد ربه وكيلا له، قد فوض إليه كما يفوض الموكل إلى وكيله العالم بكفايته ونهضته ونصحه وأمانته وخبرته وحسن اختياره. والرب سبحانه قد أمر عبده بالاحتيال، وتَوَكَّل له أن يستخرج له من حيلته ما يصلحه، فأمره أن يحرث ويبذر ويسعى ويطلب رزقه في ضمان ذلك كما قدره سبحانه ودبره واقتضته حكمته، وأمره أن لا يعلق قلبه بغيره، بل يجعل رجاءه له وخوفه منه وثقته به وتوكله عليه، واخبره أنه سبحانه الملي بالوكالة الوفي بالكفالة. فالعاجز من رمى هذا كله وراء ظهره ،وقعد كسلان طالباً للراحة مؤثرا للدعة، يقول: الرزق يطلب صاحبه كما يطلبه أجله، وسيأتيني ما قدر لي على ضعفي ولن أنال ما لم يقدر لي مع قوتي، ولو أنى هربت من رزقي كما أهرب من الموت للحقني. فيقال له: نعم هذا كله حق، وقد علمت أن الرزق مقدر، فما يدريك كيف قدر لك بسعيك أم بسعي غيرك ، وإذا كان بسعيك فبأي سبب ومن أي وجه، وإذا خفي عليك هذا كله فمن أين علمت أنه يقدر لك إتيانه عفوا بلا سعي ولا كد، فكم من شيء سعيت فيه فقدر لغيرك وكم من شيء سعى فيه غيرك فقدر لك رزقا، فإذا رأيت هذا عيانا فكيف علمت أن رزقك كله بسعي غيرك، وأيضا فهذا الذي أوردته عليك النفس يجب عليك طرده في جميع الأسباب مع مسبباتها حتى في أسباب دخول الجنة والنجاة من النار، فهل تعطلها اعتمادا على التوكل أم تقوم بها مع التوكل؟ الروح ص : 564 566