ميز جواب وزير الأوقاف والشؤون لإسلامية السيد أحمد التوفيق عن تدخلات بعض النواب في مناقشة مشروع الميزانية الفرعية لوزارة الأوقاف بمجلس النواب حول حرية الإفتاء بين الرأي الفقهي الشخصي الذي يصدر عن العلماء بصفتهم أفرادا، وبين الفتوى الرسمية التي تصدر عن لجنة الإفتاء حين يتعلق الأمر بقضية تمس الشأن العام. الضابط الذي استند إليه وزير الأوقاف في هذا الصدد هو أن الرأي الفقهي الذي يصدر عن الأشخاص سواء كانوا أهل علم أو غير ذلك لا يلزم الأمة، وأن ما عدا الفتوى الرسمية الملزمة للأمة، فلا سبيل لمنع الآراء الفقهية، والتحجير على أهل العلم في إبداء اجتهاداتهم والاستجابة لاستشارات أفراد الأمة في قضايا تمس تدينهم الشخصي. خلاصة موقف وزير الأوقاف، أن القول في الدين والاجتهاد فيه لا يمكن التحكم فيه ولا منعه ولا مصادرته، وأن تواتر إصدار بعض الفتاوى الشاذة والغرائبية من قبل بعض الأفراد سواء كانوا أهل علم أو غير ذلك، لا يبرر مصادرة الحرية ومنع العلماء من القول في الدين والاجتهاد فيه وتلبية الحاجات الدينية لأفرد الأمة. بل على العكس من ذلك تماما، ففي أجواء الحرية، يجد العلماء الفرصة لمواجهة هذه الآراء ومحاصرتها وتصدر مواقع الإرشاد والتوجيه، وتحقق الأمة حاجتها الدينية المتزايدة. يأتي هذا الجواب ردا على تدخلات لبعض النواب طالبت بمنع الإفتاء غير الرسمي، ودعت إلى حصره في دائرة المجلس العلمي الأعلى، بل ذهب بها الأمر حد المطالبة بمقاضاة المفتين غير الرسميين! الغريب أن الأصوات التي تنتسب إلى الحداثة، والتي يفترض أن تكون الأسبق إلى مناصرة حرية الفكر والقول، هي التي تبادر إلى الدعوة إلى تكميم أفواه العلماء بدعوى فوضى الفتاوى وانتشار الفتاوى الغرائبية الشاذة، مع أن ثمن الحرية في كل بلاد الدنيا أن تخرج الآراء الشاذة وأحيانا المتطرفة إلى السطح، ويتم مواجهتها ضمن السجال الفكري الديمقراطي المفتوح. والمفارقة أن هذه الأصوات في بعض الموضوعات القيمية لا تتردد في التذرع بمقولة السماح بإخراج كل المخبوء الاجتماعي للتعامل معه بكل ديمقراطية من أجل مواجهته ومحاصرته، لكنها في موضوع الفتاوى التي تخص القول في الدين وتلبية الحاجة الدينية للمجتمع، تنقلب على هذا المنطق، وتتنكر لمقولة الحرية، وتتبنى منطق المنع والمصادرة، علما أن هذا المنطق لا يمكن له أن يوقف ولا أن يصادر القول في الدين خاصة في هذا العصر الذي كثرت فيه وسائل تصريف القول سواء كان في الدين أو في غيره. إن المرء ليعجب حقيقة كيف تقبل هذه الأصوات التي تدعو إلى تكميم أفواه العلماء ومصادرة حقهم في الإفتاء التسليم بلجوء الناس إلى طلب الاستشارات في مجالات متعددة، قانونية كانت أم طبية، لتلبية حاجات ماسة لأفراد الأمة، في الوقت الذي لا تسلم فيه بوجود حاجات دينية تعكسها حجم الاستفتاءات التي يطلب من العلماء رأيهم فيها. لقد أكدت حقائق السوسيولوجيا بشكل لا يقبل الجحود والنكران أن هناك إقبالا متزايدا على الدين، وبشكل أخص على الجواب الديني، مما يعني أن الفتوى أصبحت تشكل خدمة اجتماعية بامتياز، وأن على أهل العلم أن يضاعفوا جهودهم لمواكبة هذه الحاجات المتزايدة، وأن الجهود الرسمية مهما حاولت تأطير هذه الحاجة، فإنها لن تفي بكل متطلباتها. بكلمة، إن حرية القول في الدين، والرفع من أداء العلماء لمواكبة تزايد الإقبال على الجواب الديني، وتحريك فعاليتهم لمواجهة النزق والشذوذ في الآراء الفقهية، يعتبر أنسب طريقة لتأطير الحاجة الدينية للمواطنين وصرفهم عن طلبها في جهات أخرى، كما يعتبر أفضل أسلوب لمواجهة ثقافة التطرف والغلو التي قد تنتشر في أجواء المنع والمصادرة وتأميم الفتوى الدينية.