بات الحرفيون في القدس يعانون الأمرين بعدَ إغلاق محالهم التجارية في سوق العتيقة، وخاصة في حي الدباغين نتيجة الخسارة المتواصلة التي يتعرضون لها بسبب ضعف الإقبال على صناعاتهم، ومنافسة البضائع الإسرائيلية الآلية، والصينية لهم، لذا لجؤوا إلى العمل في (إسرائيل) في عدد من المجالات أهمها الحراسة والبناء. والعمل داخل (إسرائيل) وفي أحيائها ليسَ سهلا كما يتوقع أغلب الحرفيين ، إذ إنهم يتعرضون للاعتداءات المتواصلة والمفضية إلى الموت على يد المستوطنين والمواطنين اليهود في ظل تغاضي الحكومة الإسرائيلية وتجاهل ضباط الإسعاف والأطباء. إضعافها "قرار" الحرفي حسن القاضي (37 عاما) والذي عمل في مجال صناعة الأحذية المقدسية، منذ عام 1959 وحتى 1997 بمعدل 18 ساعة يوميا، أكدَ أن عزوف الناس عن شراء صناعته اليدوية التي تُكلف مبالغ أكثر، واستبدالها بالصناعات المستوردة أو الآلية أدى به إلى إغلاق دكانه. وقال ل"فلسطين": "بدأت العمل في حرفة صناعة الأحذية منذ صغري لدى عدد من الحرفيين في مصانع كانت تعتمد على العمال بشكل كبير وبعد ذلك أصبحت صاحب أحد المصانع المتواضعة وكانت بضائعي تستهوي عددا كبيرا من الزبائن خاصة الشاميين والعراقيين". صناعة الأحذية والتي تميزت بها القدس قبلَ تنبه (إسرائيل) إلى أنها دليل على الوجود العربي، كانت تعود بالخير على أصحابها، حتى قررت إضعافها، فاستغلت الجدار الفاصل لحصار المدينة ومنع دخول المواد الخام من بلاد الشام وفتحت باب استيراد المواد الخاصة باهظة الثمن من (تل أبيب)، وفقَ القاضي الذي أشار إلى تراجع الصناعة بشكل كبير بعدَ ذلك القرار. وتابع القاضي: "عملت (إسرائيل) على تنشيط مصانعها بشكل عام، وتلك التي تخصصت بصناعة الأحذية والتي بُنيت في الجزء الغربي والمُحتل من القدس، وفتحت باب الاستيراد من الصين، وقدمت العديد من التسهيلات على تجارة الأحذية". الإجراءات السابقة دفعت الكثير من الحرفيين المقدسيين إلى إغلاق مصانعهم التي باتت تعود عليهم بالخسارة، خاصة وأنهم مجبورن على دفع ضريبة الدخل في الوقت الذي لم يحصلوا فيه على أي دعم مادي لدعم صناعتهم المحلية. وأضاف: "لم أكن الوحيد من أبناء حرفتي الذي أغلقت مصنعي ومحلي، فالكثير منهم عرضَ مصنعه للبيع، وتركَ المهنة حوالي 10 آلاف صانع أحذية بعضهم اتجه للعمل في الداخل المحتل، والبعض بحث عن حرفة أخرى، وآخرون لا أعرف عنهم شيئا بعدَ تركي لسوق الدباغين". أصحاب الحرف الأخرى، كحرفة النقش على الخشب والتي اشتهرت بها القدس كذلك، أغلقوا دكاكينهم الصغيرة في سوق المدينة، وصار بعضهم يعرض بضائعه على المارة والمشترين المحليين في شوارع وحواري القدس، بعدَ أن كانَ يؤم دكاكينهم أعداد كبيرة من السياح العرب والأجانب، وحتى اليهود. (إسرائيل) مُتهم مشترك في القضاء على هذه الحرفة كذلك، فالحرفي أمين أبو غزالة أغلقَ دكانه وانتقل إلى محل نجارة يستغل موهبته في صناعة بعض رؤوس الأسرة والكنب، والطاولات وعُلب الزينة، وفق ما أخبرَ "فلسطين". وأضاف: "تعلمت الحرفة من والدي الذي كان ماهرا فيها، وأتقنتها بعدَ سنوات من الخبرة لدى عدد من صانعي الخشب في القدس العتيقة، ولما أصبحت ماهرا فيها عجزت عن البدء بمشروعي الخاص لأن ممارسات (إسرائيل) أضعفت الصناعة". بلا مستقبل! (إسرائيل) استحوذت على جميع السياح الأجانب في الوقت الذي عزفَ فيه السياح العرب عن الدخول إلى القدس خوفا من الموت أو الإصابة والاعتقال، ورفضا للتطبيع مع (إسرائيل) التي يُجبرون على الحصول على طوابعها البريدية على جوازات سفرهم، ما أدى إلى تراجع الحرف السياحية بشكل كبير، وعلى رأسها حرفة النحت على الخشب. العاملون في هذه الحرفة، لجؤوا كغيرهم إلى العمل داخل الأراضي المحتلة، أو البحث عن فرص عمل أخرى وفقَ أبو غزالة الذي أضاف: "أنا شخصيا بتُ أعمل في بيع المسابح والتُحف العربية والمقدسية للمارة، حتى قبلَ أحد النجارين توظيفي رغم سجني أكثر من مرة لدى (إسرائيل)، وهذا من شأنه إبعادي عن أي حرفة أو وظيفة بكل سهولة". المقدسيون الذين يعملون داخل (إسرائيل)، ويتخلون عن حِرفهم التي تخسر بشكل متواصل يتعرضون للكثير من الإهانات والاعتداءات بالشتائم، والضرب المفضي إلى الموت في كثير من الأحيان. الحرفي المقدسي إبراهيم جمهور ذو الخامسة والخمسين من العمر، تعرضَ قبلَ أسابيع للضرب العنيف على رأسه من قبل مستوطنين في غربي القدس كانوا ينتظرون أي عربي يعود من عمله باتجاه شرقي المدينة، بالقرب من أدنى نقطة فاصلة بينَ شطريها. وقالَ ل"فلسطين" :" غدرَ بي 5 شبان إسرائيليين في حوالي الخامسة مساءً وضربوني على رأسي من الخلف وعندما وقعت على الأرض انهالوا عليَّ ضربا على رأسي وجسدي حتى أغشي علي". العرب الذين كانوا متواجدين في المنطقة التي ضرب بها جمهور اتصلوا بالإسعاف الإسرائيلي، وما إن حتى سأل عن هوية الرجل الذي ترتسم الملامح العربية على ملامحه، حتى عرفوا أنه عربي، مسحوا الدم عن رأسه وسألوه إن كان بخير وتركوه يغادر. أضاف جمهور: "تحركت قليلا والتفَ حولي عدد من العرب وطلبت منهم الاتصال بابني، ولما حضر لاصطحابي كُنت قد دخلت في غيبوبة، فنقلوني إلى مستشفى المقاصد، وهناك تبينَ أن الضرب تسبب بإصابة جمجمتي ببعض الشروخ والجروح". أبناء الرجل وثقوا الحادثة لدى الشرطة الإسرائيلية رغم يقينهم أن النتيجة سلبية، وحالهم كحال الكثير من المقدسيين الذين يعملون داخل (إسرائيل). بعدَ إجبارهم على إغلاق دكاكينهم، ومصانعهم الحرفية، وفتح باب العمالة لهم داخل (إسرائيل) دونَ تذليل عقباتها التي كانَ من أهمها الرفض الإسرائيلي للعرب والعنصرية التي تدفعهم لقتلهم بدم بارد، ضاعتَ الحرف الصناعية المقدسية، حتى كاد الحرفيون ينسون أصولها وفنونها، وهُجر سوق القدس العتيقة. الخبير المعماري المتخصص في شئون الآثار المقدسية الدكتور جمال عمرو في حوار سابق مع "فلسطين" لفت النظر إلى أن سوق القدس العتيق ما هو إلا شبكة أسواق تاريخية، لها صفتها المعمارية الخاصة، وتشكل في مجملها أجملَ عناصر العمارة المكونة للقدس، فهي تنبض بالحياة رغم أنها بُنيت في القرن الثامن الميلادي، وفق قوله. وأضاف: "سُميت الأسواق وفقَ الصفة المشتركة في متاجرها، فمثلا سوق القطانين الأجمل في أسواق بلاد الشام على الإطلاق، والذي بُني في القرن الثامن الميلادي، وهو مسقوف ومقبب وفيه 60 محلاً تجارياً على يمين ويسار الشارع الصغير، ولأنه مُغطى بقباب سُمي السوق العِتم، ويسمح للعابر فيه أن يتسوق من جميع المحلات في غضون دقائق". التاجر المقدسي وفقَ د.عمرو يدفع 12 نوعا من الضرائب سنويا، لا على البضائع، لكن على المكان فقط، لأن البضائع عليها ضرائب مختلفة تماماً، متابعا: "الهدف من تلك الضرائب الباهظة هو تركيع التجار المقدسيين، إلا أن البعض يفتح محله التجاري تحديا للاحتلال رغم إفلاسه، وبيعه لتجارته بخسارة". وحوربت السياحة في القدس وما يتعلق بها من حرف بوسائل عديدة، منها وفقَ د.عمرو :" تنظيم رحلات سياحية لا تمر بالأسواق العربية، وتتجه إلى الأسواق اليهودية في الشطر الآخر من القدسالمحتلة "الغربية" أو حارة المغاربة التي يطلقون عليها زورا، حارة اليهود".