يبدو أن قيم التنافسية والاستحقاق والمساواة في الحقوق الاقتصادية وربط الربح بالعمل، والتي يجب أن تطبع كل مجالات العمل والاقتصاد والإنتاج قد حققت أولى انتصاراتها في بلادنا، بعد نشر لوائح المستفيدين من مأذونيات النقل. وإذا كان الجانب الأخلاقي بطبيعة الحال يتبادر إلى الذهن ونحن نكتشف اللائحة الطويلة لأسماء مستفيدين يتوفرون على الثروة والسلطة والشهرة، مما يؤكد غياب مبدأ الحاجة في صرف هذه المأذونيات، فإنه من جانب أخر، تستدعي وجهة النظر الاقتصادية التفكير في أثار هذه المأذونيات ونمط توزيعها على النظام التدبيري ونظام الاقتصاد ونسق القيم الذي تفرضه داخل الاقتصاد الوطني، وداخل قطاعات إنتاجية هيكلية وأساسية للوطن والمواطنين، كالنقل والبناء والفلاحة والمعادن والتصدير والاستيراد والوظيفة العمومية وغيرها... إن مبدأ المأذونية يضرب في الصميم كل المبادئ الأخلاقية التي يجب أن تسري في تدبير المجالات الاقتصادية والإنتاجية، وعلى رأسها المهنية والجهد والإبداع والخدمة. هذه المبادئ التي لولاها لما نجح الغرب في بناء اقتصاديات قوية وتنافسية، كما أسست لها نظريات فكرية عديدة، نذكر منها ماكس فيبر Max Weber في كتابه «الأخلاق البروتستانتية والفكر الرأسمال» L'étique protestant et l'esprit du capitalisme، والذي أظهر فيه تفاعل الأخلاق، وعلى رأسها الإيمان بالعمل والاستقامة كقيم عليا، مع التفوق الرأسمالي والصناعي للمجتمع الغربي، خاصة في البلدان التي تطبعها الديانة البروتستانتية، كألمانيا والدول الاسكندينافية وأمريكا. فالكل يعلم أن التفوق في مجال المقاولة والأعمال يتطلب التضحية والمخاطرة بالمال والوقت والجهد، مع القدرة على الإبداع وتحسين الخدمات بما يمكن من توفير قيمة مضافة إيجابية للمستهلك. وهي معادلة صعبة، تؤكدها الإحصائيات التي تكشف على معدلات مرتفعة لإفلاس المقاولات، تحت ضغط الصعوبات والمعيقات، كفشل المنتوج في إثارة المستهلك، وقوة المنافسة، وعدم القدرة على تسديد الديون أو غيرها من الأسباب العديدة. وبالمقابل مع هذا النظام المبني على الجهد والإبداع والحرية، ينبري نظام المأذونيات على قيم مناقضة، تخرج بالمقاولة والعمل الاقتصادي من الشروط الموضوعية التي يجب أن تنطبق على الجميع بالتساوي، لتدخلها في أخرى غير عادلة وغير واقعية وغير إنتاجية، من خلال نظام تفضيلي وتميزي، لا يضمن تكافئ الفرص بين الأفراد والشركات في إنتاج وتوزيع المنتجات والخدمات. ولنتصور في هذا الإطار مجالا اقتصاديا يمكن أن خلق شركة، تحقق من أول تأسيسها أرباحا شهرية مضمونة، صافية من الأتعاب، وذلك بمجرد الحصول على رخصة من الإدارة. إن هذه العملية تقوض بشكل كامل كل الشروط اللازمة لبناء اقتصاد قوي في خدماته ومردوديته، وترهنه بمصالح أقلية من الأفراد، يستفيد بعضهم بغير حق رغم ثروتهم وسلطانهم، والبعض الأخر يستفيد في تواكل بدون أي جهد أو عمل. وفي كلتا الحالتين، تؤسس هذه المقاربة لنظام للتدبير والإنتاج الاقتصادي مبني على قيم العوز والتواكل، ضدا على قيم المبادرة والمساواة والمنافسة والمخاطرة التي لا يمكن بناء أي اقتصاد قوي وفي مصلحة المستهلكين دون إعمالها. ومن الناحية الاجتماعية، فإن هذه المأذونيات تخلق تكتلاث اجتماعية طبقية، Microcosme Social en Strates، تتكون من أفراد من الدرجة الأولى لهم مداخل للحصول على المأذونية والهبة الملكية، وأفراد من الدرجة الثانية، لا يرقون إلى هذه الهبة، ويجب عليهم الاعتماد على كدهم وجهدهم من أجل ربح قوت يومهم. وهذا يذكرنا بنظام المجتمعات الإقطاعية والأرستقراطية التي تأسست على مبادئ الامتيازات الطبقية، والتي ثارت ضدها القوى البورجوازية العاملة في أوروبا، من أجل إعمال قيم العمل والمساواة والاستحقاق. ولولا أن أوروبا قطعت مع هذا النظام، لما تمكنت من بناء اقتصادها التنافسي القوي. ذلك، أن اقتصاد الريع هو اقتصاد ضعيف، فقير الخدمات، تنعدم فيه مبادئ الإبداع والتنافسية التي تنبثق من تقفي مصلحة المستهلكين والشركاء التجاريين. أما في الريع، فالمهم هو تمكين أفراد مميزين من جمع الأموال بقوة الدولة والرخصة، من خلال تمكينهم من التصرف في حاجيات المواطنين الماسة في المنتجات «المأدونة»، كالنقل والبناء وغيره، مع حمايتهم من المنافسة من خلال منع الآخرين من مزاولة هذه الخدمات أو وتعريضهم لشروط قانونية أو اقتصادية غير متساوية. لا أحد بطبيعة الحال ينكر وجود أشخاص معوزين لأسباب عدة، يجب على المجتمع التكفل بهم وسد حاجاتهم، وهو أمر يقوم علبه الدين الإسلامي كما يقول ربنا الكريم «وفي أموالهم حق للسائل والمحروم» (سورة النساء، آية رقم 32)، حيث يقوم نظام توزيع الثروة في الإسلام على الحاجة أولا، بمعنى ضمان حد الكفاية لكل مواطن، ثم العمل ثانيا. إلا أنه من الضروري الفصل بين مجالات العمل والإنتاج الاقتصادي من جهة ومجالات المساعدة الاجتماعية من جهة أخرى. فالمجال الأول يجب أن نضمن فيه مبادئ الحرية والمساواة والتنافسية، وفك ارتباطه بأي نظام للهبات والمأذونيات يجعل المعوزين أوالمتواكلين أربابا للعمل بدون احترام لأي منطق مهني أو اقتصادي أو قيمي. أما مجال المساعدة الاجتماعية فهو يخضع لمبادئ أخرى وجب توفير شروط القيام بها. وهنا يمكن العودة إلى الأنظمة الغربية الاجتماعية القوية، التي توفر لكل شخص حقا أدنى من العيش الكريم، ليس من خلال المأدونيات، بل من خلال نظام يحترم مبادئ متوازنة وهادفة. حيث تميز بين أشخاص قادرين على العمل، فتكون المساعدة الاجتماعية التي يحصلون عليها تهدف إلى تمكينهم ودفعهم إلى العودة لسوق الشغل من أجل العمل والإنتاج، وأشخاص غير قادرين على العمل جزئيا أو نهائيا، كالعجزة والمعوقين، تقوم الدولة لهم، بالمساواة، على ضمان شروط عيش كريم، تحفظ لهم إنسانيتهم من التشرد والمهانة والسقوط.