تمتاز حياة الإنسان المسلم بأنها زاخرةٌ بالأعمال الصالحة، والعبادات المشروعة التي تجعل المسلم في عبادةٍ مُستمرة، وتحوِّل حياته كلَّها إلى قولٍ حسن، وعملٍ صالح، وسعيٍ دؤوبٍ إلى الله جل في عُلاه، دونما كللٍ أو مللٍ أو فتورٍ أو انقطاع. والمعنى أن حياة الإنسان المسلم يجب أن تكون كلَّها عبادةٌ وطاعةٌ وعملٌ صالحٌ يُقربه من الله تعالى، ويصِلُه بخالقه العظيم جل في عُلاه في كل جزئيةٍ من جزئيات حياته، وفي كل شأن من شؤونها. من هنا فإن حياة الإنسان المسلم لا تكاد تنقطع من أداء نوعٍ من أنواع العبادة التي تُمثل له منهج حياةٍ شاملٍ مُتكامل؛ فهو على سبيل المثال مكلفٌ بخمس صلواتٍ تتوزع أوقاتها على ساعات اليوم والليلة، وصلاة الجمعة في الأسبوع مرة واحدة، وصيام شهر رمضان المبارك في كل عام، وما أن يفرغ من ذلك حتى يُستحب له صيام ستةِ أيامٍ من شهر شوال، وهناك صيام يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، ثم تأتي الأيام العشرة الأولى من شهر ذي الحجة فيكون للعمل الصالح فيها قبولٌ عظيمٌ عند الله تعالى. وليس هذا فحسب؛ فهناك عبادة الحج وأداء المناسك، وأداء العُمرة، وصيام يوم عرفة لغير الحاج، ثم صيام يوم عاشوراء ويومٍ قبله أو بعده، إضافةً إلى إخراج الزكاة على من وجبت عليه، والحثُّ على الصدقة والإحسان، والإكثار من التطوع في العبادات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقول أو العمل أو النية، إلى غير ذلك من أنواع العبادات والطاعات والقُربات القولية والفعلية التي تجعل من حياة المسلم حياةً طيبةً، زاخرة بالعبادات المستمرة، ومُرتبطةً بها بشكلٍ مُتجددٍ دائمٍ يؤكده قول الحق سبحانه (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) ( سورة الشرح: الآية رقم 7 ) . من هنا فإن في حياة المسلم مواسماً سنويةً يجب عليه أن يحرص على اغتنامها والاستزادة فيها من الخير عن طريق أداء بعض العبادات المشروعة، والمحافظة على الأعمال والأقوال الصالحة التي تُقربه من الله تعالى، وتُعينه على مواجهة ظروف الحياة بنفس طيبةٍ وعزيمةٍ صادقة. وفيما يلي حديثٌ عن فضل أحد مواسم الخير المُتجدد في حياة الإنسان المسلم، والمُتمثل في الأيام العشرة الأولى من شهر ذي الحجة وما لها من الفضل والخصائص، وبيان أنواع العبادات والطاعات المشروعة فيها. فضل الأيام العشر في القرآن الكريم: وردت الإشارة إلى فضل هذه الأيام العشرة في بعض آيات القرآن الكريم، ومنها قوله تعالى: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ . لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ) ( سورة الحج: الآيتان 27 -28 ) حيث أورد ابن كثير في تفسير هذه الآية قوله: " عن ابن عباس رضي الله عنهما: الأيام المعلومات أيام العشر" (ابن كثير ، 1413ه ، ج 3 ، ص 239 ). كما جاء قول الحق تبارك وتعالى: (وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ) ( سورة الفجر : الآيتان 1 2 ). وقد أورد الإمام الطبري في تفسيره لهذه الآية قوله: " وقوله : " وَلَيَالٍ عَشْرٍ "، هي ليالي عشر ذي الحجة، لإجماع الحُجة من أهل التأويل عليه " ( الطبري ، 1415ه ، ج 7 ، ص 514 ) . في السنة النبوية: ورد ذكر الأيام العشر من ذي الحجة في بعض أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي منها: الحديث الأول: عن ابن عباس رضي الله عنهماأنه قال: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من أيامٍ العمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيامِ ( يعني أيامَ العشر ). قالوا: يا رسول الله، ولا الجهادُ في سبيل الله؟ قال: ولا الجهادُ في سبيل الله إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله فلم يرجعْ من ذلك بشيء " الحديث الثاني: عن جابرٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إن العشرَ عشرُ الأضحى، والوترُ يوم عرفة، والشفع يوم النحر" الحديث الثالث: عن جابر رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من أيامٍ أفضل عند الله من أيامَ عشر ذي الحجة". قال: فقال رجل: يا رسول الله هن أفضل أم عِدتهن جهاداً في سبيل الله؟ قال: " هن أفضل من عدتهن جهاداً في سبيل الله ". خصائص الأيام العشر: للأيام العشر الأول من شهر ذي الحجة خصائص كثيرة، نذكرُ منها ما يلي: - أن الله سبحانه وتعالى أقسم بها في كتابه الكريم فقال عز وجل: (وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْر) سورة الفجر : الآيتان 1 -2. ولاشك أن قسمُ الله تعالى بها يُنبئُ عن شرفها وفضلها. - أن الله تعالى سماها في كتابه " الأيام المعلومات "، وشَرَعَ فيها ذكرهُ على الخصوص فقال سبحانه: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَات) سورة الحج: الآية 28 ، وقد جاء في بعض التفاسير أن الأيام المعلومات هي الأيام العشر الأول من شهر ذي الحجة. - أن الأعمال الصالحة في هذه الأيام أحب إلى الله تعالى منها في غيرها؛ فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من أيام أعظم عند الله، ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التكبير والتهليل والتحميد ". - أن فيها ( يوم التروية )، وهو اليوم الثامن من ذي الحجة الذي تبدأ فيه أعمال الحج. - أن فيها ( يوم عرفة )، وهو يومٌ عظيم يُعد من مفاخر الإسلام، وله فضائل عظيمة، لأنه يوم مغفرة الذنوب والتجاوز عنها، ويوم العتق من النار، ويوم المُباهاة فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما من يومٍ أكثر من أن يُعتق الله عز وجل فيع عبداً من النار، من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يُباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء ؟ " - أن فيها ( ليلة جَمع )، وهي ليلة المُزدلفة التي يبيت فيها الحُجاج ليلة العاشر من شهر ذي الحجة بعد دفعهم من عرفة. - أن فيها فريضة الحج الذي هو الركن الخامس من أركان الإسلام. - أن فيها ( يوم النحر ) وهو يوم العاشر من ذي الحجة، الذي يُعد أعظم أيام الدُنيا كما روي عن عبد الله بن قُرْط عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن أعظم الأيام عند الله تبارك وتعالى يومُ النحر، ثم يوم القَرِّ ". - أن الله تعالى جعلها ميقاتاً للتقرُب إليه سبحانه بذبح القرابين كسوق الهدي الخاص بالحاج، وكالأضاحي التي يشترك فيها الحاج مع غيره من المسلمين. - أنها أفضل من الأيام العشرة الأخيرة من شهر رمضان؛ لما أورده شيخ الإسلام ابن تيمية وقد سئل عن عشر ذي الحجة والعشر الأواخر من رمضان أيهما أفضل؟ فأجاب: " أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان، والليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة". - أن هذه الأيام المباركات تُعد مناسبةً سنويةً مُتكررة تجتمع فيها أُمهات العبادات كما أشار إلى ذلك ابن حجر بقوله: " والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أُمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره ". - أنها أيام يشترك في خيرها وفضلها الحُجاج إلى بيت الله الحرام، والمُقيمون في أوطانهم لأن فضلها غير مرتبطٍ بمكانٍ مُعينٍ إلا للحاج. بعض العبادات و الطاعات المشروعة في الأيام العشر: مما لاشك فيه أن عبادة الله تعالى والتقرب إليه بالطاعات القولية أو الفعلية من الأمور الواجبة والمطلوبة من الإنسان المسلم في كل وقتٍ وحين؛ إلا أنها تتأكد في بعض الأوقات والمناسبات التي منها هذه الأيام العشرة من شهر ذي الحجة، حيث أشارت بعض آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية إلى بعض تلك العبادات على سبيل الاستحباب، ومن ذلك ما يلي: - الإكثار من ذكر الله سبحانه وتعالى ودعائه وتلاوة القرآن الكريم لقوله تبارك وتعالى:} وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ { ( سورة الحج : الآية 28). ولما حث عليه الهدي النبوي من الإكثار من ذكر الله تعالى في هذه الأيام على وجه الخصوص؛ فقد روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من أيام أعظم عند الله، ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التكبير، والتهليل، والتحميد "وهنا تجدر الإشارة إلى أن بعض السلف كانوا يخرجون إلى الأسواق في هذه الأيام العشر، فيُكبرون ويُكبر الناس بتكبيرهم، ومما يُستحب أن ترتفع الأصوات به التكبير وذكر الله تعالى سواءً عقب الصلوات، أو في الأسواق والدور والطرقات ونحوها. كما يُستحب الإكثار من الدعاء الصالح في هذه الأيام اغتناماً لفضيلتها، وطمعا في تحقق الإجابة فيها. - الإكثار من صلاة النوافل لكونها من أفضل القُربات إلى الله تعالى وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الإكثار منها قولاً وعملا، وهو ما يؤكده الحديث الذي روي عن ثوبان رضي الله عنه أنه قال: سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " عليك بكثرة السجود لله؛ فإنّك لا تسجد لله سجدةً إلا رفعك الله بها درجة، وحطَّ عنك بها خطيئةً ". - ذبح الأضاحي لأنها من العبادات المشروعة التي يتقرب بها المسلم إلى الله تعالى في يوم النحر أو خلال أيام التشريق، عندما يذبح القُربان من الغنم أو البقر أو الإبل، ثم يأكل من أُضحيته ويُهدي ويتصدق، وفي ذلك كثيرٌ من معاني البذل والتضحية والفداء، والاقتداء بهدي النبوة المُبارك. - الإكثار من الصدقات المادية والمعنوية: لما فيها من التقرب إلى الله تعالى وابتغاء الأجر والثواب منه سبحانه عن طريق البذل والعطاء والإحسان للآخرين، قال تعالى: }مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ { ( سورة الحديد :الآية 11) . ولما يترتب على ذلك من تأكيد الروابط الاجتماعية في المجتمع المسلم من خلال تفقد أحوال الفقراء والمساكين واليتامى والمُحتاجين وسد حاجتهم. ثم لأن في الصدقة أجرٌ عظيم وإن كانت معنويةً وغير مادية فقد ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " على كل مُسلمٍ صدقة ". فقالوا: يا نبي الله ! فمن لم يجد ؟ قال: " يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق ". قالوا: فإن لم يجد؟ قال: " يُعين ذا الحاجة الملهوف ". قالوا: فإن لم يجد؟ قال: " فليعمل بالمعروف وليُمسك عن الشر فإنها له صدقةٌ " - الصيام لكونه من أفضل العبادات الصالحة التي على المسلم أن يحرص عليها لعظيم أجرها وجزيل ثوابها، ولما روي عن صيام النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأيام المُباركة؛ فقد روي عن هُنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسعَ ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيامٍ من كُلِ شهر، أول اثنين من الشهر والخميس". وليس هذا فحسب فالصيام من العبادات التي يُتقرب بها العباد إلى الله تعالى والتي لها أجرٌ عظيم فقد روي عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم عرفة فقال: " يُكفِّر السنة الماضية والباقية " . - أداء العمرة لما لها من الأجر العظيم ولاسيما في أشهر الحج حيث إن عُمرة النبي صلى الله عليه وسلم كانت في أشهر الحج، ولما ورد في الحث على الإكثار منها والمُتابعة بينها فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " العُمرةُ إلى العُمرةِ كفارةٌ لما بينهما " - التوبة والإنابة إلى الله تعالى إذ إن مما يُشرع في هذه الأيام المباركة أن يُسارع الإنسان إلى التوبة الصادقة وطلب المغفرة من الله تعالى، وأن يُقلع عن الذنوب والمعاصي والآثام، ويتوب إلى الله تعالى منها طمعاً فيما عند الله سبحانه وتحقيقاً لقوله تعالى: }وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ { ( سورة النور : من الآية 31 ) ولأن التوبة الصادقة تعمل على تكفير السيئات ودخول الجنة بإذن الله تعالى لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له .