الاعتكاف سنَّة مؤكدة، وهدي نبوي فاضل، التزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، كما حدثتنا بذلك عائشة رضي الله عنها، واعتكف أزواجه من بعده، وأصل ذلك في صحيح مسلم وغيره.كما اعتكف أصحابه معه وبعده، ودرج على ذلك العلماء والعبَّاد والزهَّاد وطلاب الآخرة. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام؛ فلما كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين يوماً» لقد حرص رسول هذه الأمة على هذه العبادة تاركاً لمن ينتهجون نهجه درساً عظيماً في أهمية الانقطاع إلى الله تعالى والتحرر من الشواغل والمسؤوليات كائناً من كان صاحبها في الدعوة والعلم والتربية والجهاد فضلاً عن أمور الدنيا. قال صاحب الظلال: «لا بد لأي روح يراد لها أن تؤثر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهة أخرى، لا بد لهذه الروح من خلوة وعزلة بعض الوقت» إلى أن يقول: «فالاستغراق في واقع هذه الحياة يجعل النفس تألفه وتستنيم له فلا تحاول تغييره، أما الانخلاع منه فترة والانعزال عنه والحياة في طلاقة كاملة من أسر الواقع الصغير، ومن الشواغل التافهة فهو الذي يؤهل الروح الكبير لرؤية ما هو أكبر منه، ويدربه على الشعور بتكامل ذاته بدون حاجة إلى عرف الناس». والاعتكاف المسنون هو اعتكاف الروح والجسد إلى جوار الرب الكريم المنان في خلوة مشروعة تتخلص النفس من أوضار المتاع الفاني، واللذة العاجلة، وتبحر الروح في الملكوت الطاهر؛ طالبة القرب من الحبيب مالك الملك ملتمسة لنفحاته المباركات. الاعتكاف المسنون هو الخلوة الصادقة مع الله تفكراً في آلائه ومننه وفضائله، واعترافاً بربوبيته وإلهيته وعظمته، وإقراراً بكل حقوقه، وثناء عليه بكل جميل ومحمود. الاعتكاف المسنون قيام وذكر وقراءة قرآن، وإحياء لساعات الليل بكل طيب وصالح من قول وعمل. إننا يمكن أن ننظر إلى هذه العبادة لتحقيق أمور هامة لعل منها ما يلي: 1 استدراك كل نقص، وتعويض كل تقصير يحصل للمرء في علاقته بالله تعالى من جراء كثرة الانشغالات الدعوية والعلمية ونحوها، أو من باب أوْلى: المشاغل الناتجة عن العلائق الدنيوية كالزوجة والأبناء والوظيفة. 2 زيادة الصلة الإيمانية بالله، وفتح المزيد من الأبواب التعبدية التي تزكي النفس وتؤهلها لمواجهة الفتن واستنقاذ الآخرين منها بإذن الله. 3 الاعتكاف فرصة عظيمة لطلبة العلم الذين اشتغلوا بالتحصيل والتعليم عن كثير من التطبيق والعمل، ولا سيما أن العقلاء يرفضون أن يعلِّم الناس امرؤ ما فيه نجاتهم ثم ينصرف هو عن ذلك. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه مثل الفتيلة تضيء للناس وتحرق نفسها». 4 الاعتكاف موسم عظيم للدعاة والمربين؛ أولاً: لسد النقص الذي اعتراهم لانشغالهم بالخلق. وثانياً: لاستغلال الفرصة للرقي بالمستوى الإيماني والتعبدي عند المدعوين والمتربين. إنه من الوضوح بمكان وجود حالة ضعف عامة في همم الصالحين فيما يتعلق بالجوانب التعبدية والسلوكية مقارنة بما يراد منها لإصلاح المجتمع والارتقاء به إلى مشابهة مجتمع السلف الصالح؛ ولذلك فإننا بحاجة لانتهاز موسم رمضان عموماً وعبادة الاعتكاف خصوصاً لتحسين الصورة العامة من خلال مخاطبة الأفراد. 5 وهو فرصة عظيمة لاختبار الإخلاص المحض لله تعالى في كل الأعمال والحركات والسكنات، وهذه النقطة أكبر من أن ينظر إليها من زاوية فردية؛ فالإخلاص هو مدار قبول جميع الأعمال الموافقة للشريعة ومنها كل ما يتعلق بالدعوة والتربية والتعليم. وإنه لمن الخسران العظيم أن تنفق وتبذل الأموال وتبذل الجهود ثم يكون المانع من تحقيق الأهداف المطلوبة شرعاً دخل في إخلاص العاملين؛ والإخلاص على خطر عظيم في أوساط الجماعة الواحدة كما هو معلوم. 6 الاعتكاف فرصة للخلوة الفكرية التي يستطيع بها الداعية أن يحكم على مساره ويقيم إنجازاته: هل ما زال يسير وفق الخطوة المرسومة إلى الهدف المحدد، أم مال عنه؟ وما نسبة الميل؟ وهل تراه يحتاج إلى تعديل المسار أم مراجعة الهدف وإعادة صياغته؟ إن فترة الخلوة الروحية في الاعتكاف عظيمة لتحقيق الخلوة الفكرية؛ إذ تكون النفس أقرب إلى التجرد من حظوظ النفس وأوْلى بمحاكاة المثالية التي تلفظ العادة الدارجة، ولكونها محطة توقف عن العمل يسهل استئنافه بعدها وفق الشكل الجديد الأسلم. 7 وهو فرصة عظيمة لتجاوز إشكالية شديدة الحساسية وهي مشكلة قولبة المتربي في حدود إطار المربي، وهذا أمر على عظيم مرارته حقيقة خطيرة واضحة في كون بعض المحاضن التربوية تقوم بتخريج أفراد كأنهم نسخ طبق الأصل من شخصيات القائمين على المحاضن، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما كان يربي قادة لا عبيداً، ثم من تراه الذي يذكر أولئك المربين الذين خرَّجوا للأمة أصحاب المذاهب وأصحاب التفسير وأئمة الحديث والتاريخ والجهاد وغيرهم. إن الاعتكاف فرصة للبدء في توجيه المتربي لينطلق بلا قيد في أبواب العبادات وصقل الشخصية وتوجيه الاهتمامات وجدية نمطية التفكير وشق طريق بناء الاستقلال المنضبط، وحسبنا في هذه العجالة لفت النظر للمسألة. ينبغي أن نشير إلى أن الاعتكاف المطلوب لتحقيق ما سبق وغيره ليس الاعتكاف الذي يجعل المساجد مهاجع للنائمين، وعناوين للمتزاورين، وموائد للآكلين، وحلقات للتعارف وفضول الكلام. إن الاعتكاف المطلوب هو ذلك الذي ينقل المرء إلى مشابهة حياة السلف الصالح في كل همسة ولفتة. نعم إنه الاعتكاف الذي تسيل فيه دموع الخاشعين المتدبرين، وترفع فيه أكف الضارعين المتبتلين، ويسعى فيه صاحبه جاهداً لئلا تضيع من ثواني هذه الأيام لحظة واحدة في غير طاعة؛ إنه الاعتكاف الذي يحقق مفهوم التربية الذاتية لمشابهة المحسنين يستغله المرء ليصل إلى مرتبة عالية، فيكون لسانه رطباً من ذكر الله تعالى، ويستعرض كتاب الله تلاوة وتأملاً وتفسيراً، ويصل إلى المراتب العليا في المحافظة على الصلاة تبكيراً وخشوعاً، ويألف مكابدة قيام الليل تلذذاً وخشية، إنه الاعتكاف الذي يحرر المرء من كثير من سوالب السمت والحكمة من فضول كلام، وكثرة هزل، وزيادة خلطة من أعظم مفاسدها أنها تقصر همة المرء عند همة أصحابه؛ إنه الاعتكاف الذي يربي النفس على التقلل والتزهد في أصناف المطعومات والمشروبات؛ فيوجب رقة القلب، وانكسار النفس، والتحرر من قيود الهوى والدعة والكسل. قال ابن القيم رحمه الله : «إذا طلع نجم الهمة في ليل البطالة، وردفه قمر العزيمة، أشرقت أرض القلب بنور ربها»(4). فلنجعل الاعتكاف فرصة للنقلة الإيجابية المطلوبة على أن نحذر طلب الكمالات المحضة التي تسبب انتكاسة في الهمة وانصرافاً عن الخير كلية. نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لطاعته، ويعيننا على أدائها بالشكل الأصوب، ويتقبلها منا برحمته وفضله.