الاستنتاج الأكثر رجحانا في التعاطي الرسمي مع موضوع المشاركة السياسية للجالية المغربية هو وجود تخوف ما من تلك المشاركة. و مطلب مشاركة الجالية في المؤسسات المنتخبة مطلب قديم، جاء الدستور الجديد ليحسمه بشكل واضح يقطع الطريق مع سياسة التسويف والإرجاء التي طبعت التدبير الرسمي له، رغم أن " الدستور الجديد يكرس الديمقراطية التمثيلية عبر تمكين المغاربة المقيمين بالخارج من المساهمة في تدبير الشأن العام إما كناخبين أو منتخبين، بالإضافة إلى تكريسه للديمقراطية التشاركية من خلال الحث على إحداث جمعيات من قبل الجالية المغربية المقيمة بالخارج تكون قادرة على تقديم الاقتراحات". ومقابل عدة مؤشرات ترجح وجود تخوف رسمي من تلك المشاركة نجد مؤشرات قوية في أوساط الجالية تصر على حقها في المشاركة، كان آخرها تأسيس حزب سياسي قبل أسبوعين تقريبا خرج من رحم تلك الأوساط. مؤشرات التخوف الرسمي عكستها الرسائل الواضحة التي تم تصريفها خلال الأنشطة الرسمية الأخيرة حول موضوع الجالية والتي تأتي في ظل مناقشة القوانين الانتخابية التي يروج في كواليسها توجه رسمي نحو اعتماد آلية "الوكالة" في مشاركة مغاربة الخارج في الاستحقاقات الانتخابية بذل إنشاء دوائر انتخابية وفتح مكاتب تصويت في بلدان المهجر على غرار ما تقوم به عدة دول، بل وعلى غرار ما تم في التصويت على الدستور الجديد الذي أشر انخراط أفراد الجالية الواسع في التصويت بنعم عيه، على انتظاراتهم السياسية. ويمكن القول إن الرسائل الرسمية التي تم الترويج لها بكثافة مؤخرا قبيل وأثناء الاحتفال باليوم الوطني للمهاجر، تجمع على تأكيد أن الأولوية لدى المهاجرين ليست في المشاركة السياسية بقدر ما هي في حل مشاكلهم الاجتماعية. وهو الأمر الذي يحاول الخطاب الرسمي تأكيد نجاح الحكومة فيه من خلال إعلان حصيلة "المنجزات" فيه، وطمأنة الجالية بكون الدستور الجديد حسم مسألة المشاركة وأن لا أحد يستطيع التراجع عن الأمر الآن، ولكن ... هذا الخطاب صرفه الوزير المكلف بالجالية في ندوته الصحافية ليوم الثلاثاء، كما صرفها بمعية الأمين العام لمجلس الجالية المغربية بالخارج في برنامج قضايا وآراء في نفس اليوم على القناة الأولى. وصرفها الوزير في اليوم الوطني للجالية يوم الأربعاء والذي كان تحت شعار "الدستور الجديد وتطوير الأداء للنهوض بقضايا الجالية المغربية المقيمة بالخارج" بمعية رئيس مجلس الجالية والذي ذهب في لقاء حضره قرابة ست مائة (600) من الجالية إلى حد تشبيه الانتخابات ب"الكازينو" ! المتتبع لتلك الأنشطة يخرج بخلاصة واحدة هي أن "الحكومة" تسعى بكل ما أوتيت من قوة الخطابة إلى صرف اهتمام أبناء الجالية عن موضوع مطلبها بحقها في المشاركة السياسية، وجعلها بدل ذلك تهتم ب "منجزات الحكومة". ورغم أننا لسنا بصدد تقييم تلك المنجزات إلا أن "إشهارها" في وجه المطالبين بأجرأة المقتضيات الدستورية الجديدة المجسدة لوعود سنوات مضت يجعلنا أمام غموض كبير في الموقف الرسمي يمكن الذهاب حد اعتباره محاولة التفاف مكشوفة على حق الجالية السياسي. فمن جهة أولى ليس هناك لحد الساعة أي إجراء أو توجه رسمي معلن يوضح نية الحكومة ووزارة الداخلية فيما يتعلق بمطلب مشاركة الجالية السياسية والكاملة. ومن جهة أخرى الحديث عن منجزات الحكومة هو حديث عن الواجب الحكومي الذي لا يمكن تقديمه بشكل مجاملاتي كما يسقط في ذلك الخطاب الرسمي بوعي أصحابه أو بدون وعيهم، في حين أن المشاركة السياسية، كما نص عليها الدستور، مطلب سياسي لأعضاء الجالية لا يمكن تقييم أهميته إلا من قبلها هي والأمران مختلفان لكن لا يتنافيان و لا يعوض أحدهم الآخر. وبخلاف ما روجه الإعلام الرسمي فمحطة هذه السنة للاحتفال باليوم الوطني للجالية فشلت في تبديد مخاوف مغاربة العالم من تكرار الالتفاف على مطلبها من جديد، بل إن الحاضرين من الجالية، والذين جاؤوا من مختلف المدن المغربية، خرجوا من عيدهم الوطني متذمرين. فحصيلة الوزارة لم ترضهم وتدبير برنامج اليوم الوطني ترك لديهم علامات استفهام تغذي مخاوفهم حول الموقف الرسمي من مطلبهم السياسي الرئيسي. وبلغ الارتباك الرسمي في تدبير الملف حد إلغاء مائدة مستديرة مبرمجة، حضر المشاركون فيها، و ألغيت في حينها دون إعلام الحاضرين ولا الأساتذة المدعوين الذين لم يعلموا بالإلغاء إلا حين حل وقت النشاط! وتم تعويضها، دون إعطاء تفسير للنازلة، بنقاش عام طلب فيه من الحاضرين الحديث عن "الدستور الجديد وتطوير الأداء للنهوض بقضايا الجالية المغربية المقيمة بالخارج" وهو ما استهجنه الجميع على ما أكدت مصادر موثوقة من اللقاء الذي عرف انسحابات كبيرة من طرف ممثلي الفرق البرلمانية. وبالطبع لم يكن إلغاء المائدة المستديرة التي كان مبرمجا أن يشارك فيها أساتذة جامعيون منهم من عرف بمواقفه الواضحة من مسألة المشاركة السياسية للجالية، إلا لتفادي "خطأ" فسح المجال لمناقشة ذلك المطلب وهرب النقاش بذل ذلك إلى نقاش عام يعوم في منجزات الحكومة! إن الالتباس الذي طبع الموقف الرسمي من مطلب الجالية المغربية الطبيعي القديم والذي يتجدد مع كل دورة استحقاقات، بل والذي نظمه الدستور الجديد اليوم، من شأنه تعميق مخاوف الجالية من أن يتم مجددا الالتفاف على مطلبها، ويعتبر قطاع كبير منهم الترويج ل"الوكالة" ليس إلا لذر الرماد في العيون والالتفاف على حقهم الدستوري. وتبق الأسئلة المحيرة هي من يتخوف من المشاركة السياسية الواسعة للجالية في الاستحقاقات القادمة؟ ولماذا هذا التخوف؟ ومن المستفيد من الوضع الحالي للمشاركة السياسية للجالية؟ إن المقاربة السياسوية الضيقة في التعامل مع ملف شريحة حيوية تلعب دورا كبيرا في الاقتصاد الوطني وفي الحيات الاجتماعية لقطاع عريض من المغاربة من شأنه أن يدفع أفراد الجالية المغربية في الخارج إلى نوع من "الحريك" السياسي الذي يمكن أن تكون له نتائج كارثية على الاقتصاد الوطني. و تكشف تلك المقاربة من جديد أن منطق الحسابات السياسية ومن خلال ملف الجالية لها خطور كبيرة في الحياة السياسية للمغرب. وتؤكد أن استمرار ذلك المنطق قد يحدث أضرارا تأتني على ما تم إنجازه لحد الآن في ورش الإصلاح الدستوري وما واكبه من إصلاحات سياسية رغم محدوديتها.