وجه التحدي في أمر السيدة البوكيري فاطمة في تجربة حفظ القرآن الكريم، أنها لم تكن تحفظ منه إلا بضع آيات وسور قصار، ظلت عالقة بذهنها منذ فترة الدراسة التي توقفت عند مستوى البروفي (الثالثة إعدادي)كما عبرت. وبينما كانت تسعفها في أداء الصلوات الخمس، فإنها لم تفكر يوما في أن تتجاوزها. لكن ما حدث وهي على أعتاب 64 سنة من عمرها، أن القرآن الكريم الآن ينبض حيا في صدرها، بعد أن كان لها نصيب من العودة الموفقة والالتفافة الحميمة على مائدة وحي السماء، والاسترواح في ظلاله..، واليوم وهي على مقاعد دورتحفيظ القرآن، أصبحت تحفظ القرآن كاملا، وهي بصدد الختمة الرابعة. لقد استطاعت هذه السيدة أن تصنع لنفسها حقيقة غير تلك الحقيقة التي تقوم على افتراض أن المسنين تجاوزهم الزمن في صنع التفوق، وهي تحكي عبر تجربتها في حفظ القرآن الكريم، أن عزيمة الحفظ إذا صحت لا تعترف بالسن ولا بالظروف..، إذ ليست العبرة بالطريقة والكيفية، بل الفتح من الله وحده، وما يأتي من خير، فهو نعمة عظيمة من الله تعالى تستوجب الشكر لا الفخر. في بيت لم يعترف بداية بحلم امرأة في أن تكون من الحافظات لكتاب الله، وهي تعدل فجأة عن هواية قراءة القصص والمجلات، وتركن إلى ظلال ما قاله ابن مسعود رضي الله عنه: « إن هذه القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بغيره»، حفظت سورة «البقرة»، كانت تحفظها كما لو تحفظ مادة الاجتماعيات..، تطالع الآيات من المصحف الشريف، ثم تكتب ما حفظته على الأوراق، تراجع منها وهي تقوم بالأشغال المنزلية، وتحملها أينما حلت وارتحلت، وفي كل ليلة تراجع حفظها على أحد أبنائها، قبل أن ترسخ هذا الحفظ في مراجعة يومية قبيل صلاة الفجر. ولطالما نبهها أبناؤها إلى أن هذه ليست هي طريقة حفظ القرآن الكريم، بل وكانوا يضحكون من ذلك. إتمامها لسورة البقرة حفظا، كان حافزا لديها على إكمال مشوار الحفظ، من خلال الانتساب إلى أحد مراكز تحفيظ القرآن الكريم سنة 1994 بحي اسباتة بالدار البيضاء، هناك عقدت وأقامت روابط أخوية ودية، واستأنست بأجوائها في المنافسة على حفظ سور القرآن...وسط ثلة ائتلفت قلوبهن وتوحدت فكرتهن وقويت عزيمتهن على خوض غمار مسار لطالما ظن كثير منهن أنه بعيد المنال، لكن بعد 3 سنوات أثبتت التجربة التي خاضتها أن الفكرة أضحت واقعا، فكانت النتيجة من هذا الخير أن يسر الله لها حفظ القرآن، فكان فيها تحقيق موعود الله عز وجل بتيسير الذكر والحفظ. وفي أربع سنوات تالية أنجزت أربع ختمات. ما بين دفتي المصحف الشريف واللوح والمداد، والتسميع على محفظتها بالمركز، كانت تحفظ بحماس ورغبة، كطالب محب لدراسته يستوعب ما يقال له بسرعة فائقة وبقوة، وينهي متطلباته وواجباته في وقت وجيز. كل أسبوع يكون التسميع لحزب واحد، مع الحرص على عدم فوات هذا الموعد مهما حالت دونه الحوائل، أو اعترضته العوارض. وجاءت الفرحة الكبرى، تحكي السيدة فاطمة، وهي تتذكر يوم ختمها القرآن بشوق كبير» لم أحس بشعور ذلك اليوم المميز طيلة حياتي، كانت لدي كثير من الأماني، لكن عندما ختمت القرآن الكريم أحسست أنني ملكت الدنيا، إذ لم يعد يتساوى مع هذا الخير الذي أكرمني به الله عز وجل وأنا على كبر، أي شيء آخر». وظلت تردد على مسامعنا « عندما تكون الرغبة تهون كل الصعاب، بالخصوص إذا كانت في طريق الله، فالله يبارك في الوقت وفي الجهد وتحل البركة في كل شيء...»، قبل أن تؤكد على أن أفضل الأوقات المساعدة على الحفظ من خلال تجربتها هما وقتي ما قبل النوم مباشرة ومع الفجر. وبالجملة فإن الكتاب الكريم ارتقى بزاد هذه السيدة، الذي أضحى زادا جاء الحديث عنه في الأثرأن مثل حافظ القرآن وغير الحافظ ؛ مثل اثنين في سفر، الأول: زاده التمر، والثاني:زاده الدقيق، فالأول: يأكل متى شاء وهو على راحلته، والثاني: لا بد له من النزول ، وعجن ، وإيقاد نار، وخبز، وانتظار نضج.